نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة

 بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ المفيد رضي الله عنه إذا سلم للخصوم ما ادعوه على النبي (ص) من قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.

كان محمولا على أن الذي تركه الأنبياء ( ع ) صدقة فإنه لا يورث و لم يكن محمولا على أن ما خلفوه من أملاكهم فهو صدقة لغيرهم لا يورث.
و الحجة على ذلك أن التأويل الأول موافق لعموم القرآن و تأويل الناصبة مانع من العموم و ما يوافق ظاهر القن أولى بالحق مما خالفه.
فإن قالوا هذا لا يصح و ذلك لأن كل شي‏ء تركه الخلق بأجمعهم صدقة و كان من صدقاتهم لم يورث و لم يصح ميراثه فلا يكون حينئذ لتخصيص الأنبياء ع بذكره فائدة معقولة.

قيل لهم ليس الأمر كما ذكرتم و ذلك أن الشي‏ء قد يعم بتخصيص البعض للتحقيق بإنهم أولى الناس بالعمل بمعناه و ألزم الخلق له و إن كان دينا لمن سواهم من المكلفين قال الله عز و جل إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها و إن كان منذرا لجميع العقلاء.
و قال إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ و إن كان قد يعمرها الكفار و من هو بخلاف هذه الصفة.

و قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ و إن كان في الكفار من إذا ذكر الله وجل قلبه و خاف و في المؤمنين من يسمع ذكر الله هو مسرور بنعم الله أو مشغول بضرب من المباح فلا يلحقه في الحال وجل و لا يعتريه خوف.
و هذا محسوس معروف بالعادات و هو كقول القائل نحن معاشر المسلمين لا نقر على منكر و إن كان أهل الملل من غيرهم لا يقرون على ما يرونه من المنكرات و في المسلمين من يقر على منكر يعتقد صوابه بالشبهات و كقول فقيه من الفقهاء نحن معاشر الفقهاء لا نرى قبول شهادة الفاسقين و قد ترى ذلك جماعة ممن ليس من الفقهاء.
و كقول القائل نحن معاشر القراء لا نستجيز خيانة الظالمين و قد يدخل معهم من يحرم ذلك من غير القراء من العدول و الفاسقين و أمثال هذا في القول المعتاد كثير.
و إنما المعنى في التخصيص به التحقيق بمعناه و التقدم فيه و إنهم قدوة لمن سواهم و أئمتهم في العمل نحو ما ذكرناه. و وجه آخر و هو أنه يحتمل أن يكون قوله ع إن صح عنه أنه قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة لا يورث
أي لا يستحقه أحد من أولادنا و أقربائنا و إن صاروا إلى حال الفقراء التي من صار إليها من غيرهم حلت لهم صدقات أهليهم لأن الله تعالى حرم الصدقة على أولاد الأنبياء و أقاربهم تعظيما لهم و رفعا لأقدارهم عن الأدناس و ليس ذلك فيمن
سواهمن الناس لأن غير الأنبياء ع إذا تركوا صدقات و وقوفا و وصايا للفقراء من سائر الناس فصار أولادهم و أقاربهم من بعدهم إلى حال الفقر كان لهم فيها حقوق أوكد من حقوق غيرهم من الأباعد.
فمنع رسول الله ص ذريته و أهل بيته من نيل ما تركه صدقاته و إن افتقروا و خرجوا من حال الغنى و كان المعنى في قوله لا نورث أي لا يصير من بعدنا إلا ورثتنا على حال و هذا معروف في انتقال الأشياء من الأموات إلى الأحياء و الوصف له بأنه ميراث و إن لم يوجد من جهة الإرث قال الله عز و جل وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ

فصل
و قد تعلق بعضهم بلفظ آخر في هذا الخبر فقال إن النبي ص قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه هو صدقة
و هذا أيضا لا يصح.
فالوجه فيه أن الذي تركناه من حقوقنا و ديوننا فلم نطالب في حياتنا و نستنجزه قبل مماتنا فهو صدقة على من هو في يده من بعد موتنا و ليس يجوز لورثتنا أن يتعرضوا لتمليكه فإنا قد عفونا لمن هو في يده عنه بتركنا قبضه منه في حياتنا و ليس معناه ما تأوله الخصوم.
و الدليل على ذلك أن الذي ذكرناه فيه موافق لعموم القرآن و ظاهره.و ما ادعاه المخالف دافع لعموم القرآن و مخالف لظاهره و حمل السنة على وفاق العموم أولى من حمله على خلاف ذلك. و الله ولي التوفيق و الحمد لله رب العالمين صلواته على خير خلقه محمد و آله الطيبين الطاهرين المعصومين.

تكميل و بعد تمام هذه الرسالة الثمينة ننقل بعض كلمات الأعلام حول هذا الحديث تتميما للفائدة و تبينا للحق. اللهم أرنا الحق حقا حتى نتبعه و أرنا الباطل باطلا حتى نجتنبه.
قال القرطبي في تفسيره و يحتمل قوله ع إنا معاشر الأنبياء لا نورث أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء و سيرتهم و إن كان فيهم من ورث ماله كزكريا على أشهر الأقوال فيه و هذا كما تقول إنا معاشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة و المراد أن ذلك فعل الأكثر و منه ما حكى سيبويه إنا معاشر العرب أقرى الناس للضيف.
الفخر الرازي في تفسير الآية 11-  من سورة النساء الموضع الرابع من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء ع لا يورثون و الشيعة خالفوا فيه.
روى أن فاطمة ع لما طلبت الميراث و منعوها منه احتجوا بقوله ع نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة فعند هذا احتجت فاطمة ع بعموم قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و كأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر واحد.
ثم إن الشيعة قالوا بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر واحد إلا أنه غير جائز هاهنا و بيانه من ثلاثة أوجه
أحدها إنه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا ع يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ و قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قالوا و لا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم و الدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة بل يكون كسبا جديدا مبتدأ إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة.
و ثانيها إن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة و علي و العباس و هؤلاء كانوا من أكابر الزهاد و العلماء و أهل الدين و أما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول ع فكيف يليق بالرسول ع أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها و لا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة.
و ثالثها يحتمل أن قوله ما تركناه صدقة صلة لا نورث و التقدير أن الشي‏ء الذي تركناه صدقة فذلك الشي‏ء لا يورث. فإن قيل فعلى هذا تقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك. قلنا بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشي‏ء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم و لا يرثه وارث عنهم و هذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
قال العلامة الحلي رحمه الله إن أبا بكر منع فاطمة إرثها فقالت يا ابن أي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي و احتج عليها برواية تفرد هو بها عن جميع المسلمين مع قلة رواياته و قلة علمه و كونه الغريم لأن الصدقة تحل عليه. فقال لها إن النبي قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة
و القرآن مخالف لذلك فإن صريحه يقتضي دخول النبي ص فيه بقوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ و قد نص على أن الأنبياء يورثون فقال تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُد .
و قال عن زكريا إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ و ناقض فعله أيضا هذه الرواية لأن أمير المؤمنين و العباس اختلفا في بغلة رسول الله ص و سيفه و عمامته و حكم بها ميراثا لأمير المؤمنين و لو كانت صدقة لما حلت على علي ع و كان يجب على أبي بكر انتزاعها منه و لكان أهل البيت الذين حكى الله تعالى عنهم بأنه طهرهم تطهيرا مرتكبين ما لا يجوز نعوذ بالله من هذه المقالات الردية و الاعتقادات الفاسدة.
و أخذ فدكا من فاطمة و قد وهبها إياها رسول الله ص فلم يصدقها مع أن الله قد طهرها و زكاها و استعان بها النبي ص في الدعاء على الكفار على ما حكى الله تعالى و أمره بذلك فقال تعالى فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ فكيف يأمره الله تعالى بالاستعانة و هو سيد المرسلين بابنته و هي كاذبة في دعواها غاصبة لمال غيرها نعوذ بالله من ذلك.
فجاءت بأمير المؤمنين ع فشهد لها فلم يقبل شهادته قال إنه يجر إلى نفسه و هذا من قلة معرفته بالأحكام و مع أن الله تعالى قد نص في آية المباهلة أنه نفس رسول الله ص فكيف يليق بمن هو بهذه المنزلة و استعان به رسول الله ص بأمر الله في الدعاء يوم المباهلة أن يشهد بالباطل و يكذب و يغصب المسلمين أموالهم نعوذ بالله من هذه المقالة .
و شهد لها الحسنان ع فرد شهادتهما و قال هذان ابناك لا أقبل شهادتهما لأنهما يجران نفعا بشهادتهما و هذان قلة معرفته بالأحكام أيضا مع أن الله قد أمر النبي ص بالاستعانة بدعائهما يوم المباهلة فقال أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ .
و حكم رسول الله ص بأنهما سيدا شباب أهل الجنة فكيف يجامع هذا شهادتهما بالزور و الكذب و غصب المسلمين حقهم نعوذ بالله من ذلك.
ثم جاءت بأم أيمن فقال امرأة لا يقبل قولها مع أن النبي ص قال أم أيمن من أهل الجنة فعند ذلك غضبت عليه و على صاحبه و حلفت أن لا تكلمه و لا صاحبه حتى تلقى أباها و تشكو إليه فلما حضرتها الوفاة أوصت أن تدفن ليلا و لا يدع أحدا منهم يصلي عليها.
و قد رووا جميعا أن النبي ص قال «إن الله يغضب لغضبك و يرضى لرضاك»
قال العلامة الأميني في الغدير لو كان رسول الله ص قال ذلك أي حديث نحن معاشر لوجب أن يفشيه إلى آله و ذويه الذين يدعون الوراثة منه ليقطع معاذيرهم في ذلك بالتمسك بعمومات الإرث من آي القرآن الكريم و السنة الشريفة فلا يكون هناك صخب و حوار تتعقبهما محن و لا تموت بضعته الطاهرة و هي واجدة على أصحاب أبيها و يكون ذلك كله مثارا للبغضاء و العداء في الأجيال المتعاقبة بين أشياع كل من الفريقين و قد بعث هو ص لكسح تلكم المعرات و عقد الإخاء بين الأمم و الأفراد.
أ لم يكن ص على بصيرة مما يحدث بعده مالفتن الناشئة من عدم إيقاف أهله و ذويه على هذا الحكم المختص به ص المخصص لشرعة الإرث حاشاه و عنده علم المنايا و البلايا و القضايا و الفتن و الملاحم.
و هل ترى أن دعوى الصديق الأكبر أمير المؤمنين و حليلته الصديقة الكبرى ص على أبي بكر ما استولت عليه يده مما تركه النبي ص من ماله كانت بعد علم و تصديق منهما بتلك السنة المزعومة صفحا منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا أو كانت عن جهل منهما بما جاء به أبو بكر نحن نقدس ساحتهما أخذا بالكتاب و السنة عن علم بسنة ثابتة و الصفح عنها و عن جهل يربكهما في الميزان.
و لماذا يصدق أبو بكر في دعواه الشاذة عن الكتاب و السنة فيما لا يعلم إلا من قبل ورثته ص و وصيه الذي هتف ص به و بوصياته من بدء دعوته في الأندية و المجتمعات و لم تكن أذن واعية لدعوى الصديقة و زوجها.
قال ابن أبي الحديد في شرحه على النهج و سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له أ كانت فاطمة صادقة قال نعم قلت فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكا و هي عنده صادقة فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته قال لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا و ادعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه و لم يكن يمكنه الاعتذار و الموافقة بشي‏ء لأنه قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة و لا شهود و هذا كلام صحيح و إن كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل.

المصدر: شبکة الشیعة العالمیة

إضافة تعليق جديد