الأمركة

الأمركة

الأمرکة

الأمركة ليست مؤسسة من مؤسسات العولمة بل إنها المشروع الذي تقوده حالياً الولايات المتحدة الأمريكية والتي تريد تعميمه على العالم وخصوصاً بعد أن أصبحت المهندس الوحيد لمجمل القرارات العالمية، ورغم تعميمها لنموذجها بقوة التقنية والإعلام في مجمل القارات الخمسة، إلا أنها انتقلت إلى مرحلة الفعل العسكري لتعميم هذا النموذج في المواقع التي تتمتع بممانعة ذاتية لمشروعها وهو العالم
الإسلامي الذي تدفعه عقيدته باتجاه الاعتزاز بالذات. وما الحرب ضد أفغانستان والعراق إلا مثل للتدخل العسكري لفرض الأمركة على شعوب العالم.
وقد دفع مشروع الأمركة مشروعاً آخر كان موجوداً ومطروحاً لكن ليس بهذه القوة، وهو مشروع الفرانكفونية الذي تقود لواءه فرنسا. ويعبر المشروعان للأمركة والفرانكفونية عن النزعة الاستعلائية الاستكبارية في حق الشعوب المستضعفة. ومن المؤسف أن بعض الدول العربية في شمال إفريقيا تعمل للفرانكفونية بينما تعمل دول عربية في المشرق والخليج العربي لصالح الأمركة.
فالغزاة الفرانكفونيون عندما وصلوا إلى المغرب العربي في سنة 1830، حوّلوا المساجد إلى كنائس واصطبلات، وجمدوا تدريس اللغة العربية، ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا في الجزائر في بداية غزوها أربعة ملايين جزائري هبوا للدفاع عن مقدساتهم، وانتهكوا حرمات النساء، وفرضوا على الجزائريين أسماءهم، وقد تمكن الغزاة الفرانكفونيون من إفقار إفريقيا وامتصاص خيراتها، وحتى المساعدات الفرنسية إلى الشعوب الإفريقية بعد استقلال إفريقيا كانت تسترجع فرنسا بدلها ربحاً مضاعفاً، وقد قال مستشار الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا متيران إن كل فرنك تدفعه فرنسا كمساعدة لإفريقيا لتسترجع بدله عشرة فرنكات، وفرنسا التي ترفع لواء الفرانكفونية وتسعى لضم مستعمراتها السابقة إلى مظلتها اللغوية والحضارية والثقافية، لا تعمل مع هذه الدول وتعفيها من ديونها المترتبة عليها والتي تجاوزت مئات الملايين من الدولارات.
وقد استخدمت الأمركة نفوذها الاقتصادي والعسكري والأمني واللوجستي والسياسي في تنفيذ مشروعها الذي بدأ بتحويل الإسلام إلى عدو رقم واحد للكتلة الغربية، ثم لجأت إلى نخر هذا العدو رغم كونه مستضعفاً ضعيفاً، بتجفيف منابعه الثقافية تارة، ومحاصرته تارة أخرى، ولأنه لم يبق له إلا النفط فهي قادمة لتجريده من هذا المصدر الذي بقي له، وعندما تتأكد أنها قد أجهزت عليه تعمل في مواقع وجوده بصياغة وإعادة رسم تماماً، كما بدأت الإمبراطوريات السالفة الذكر برسم خرائطنا وجغرافياتنا في بداية القرن الماضي.
وتقوم العولمة على أساس حرية التجارة العالمية وذلك بإزالة الحواجز أمام نقل السلع والخدمات وانتقال الأشخاص بين الدول بحرية تامة، فحيثما تنتقل السلع والخدمات والأموال والأشخاص من دولة إلى دولة فإنه ينبغي أن يكون المحيط الذي تنتقل إليه مساوياً للمحيط السابق وبدون عوائق، فالمسألة ليست إزالة الحواجز الجمركية بين الدول بل إنها تتطلب معاملة للسلع والأموال والأشخاص بشكل متساو أينما حلت ووضعت ترحالها. وتطبيق هذه العملية ليس من السهولة التي يتصورها البعض بل إنه يتطلب توحيد جميع القوانين الخاصة بالأموال والأشخاص أي توحيد النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بما ينسجم والوضع الجديد.
وتوحيد النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي يتطلب البحث عن نموذج معروف للمجتمع الدولي وممكن تطبيقه بسهولة. وبالنظر لعدم وجود معايير دولية للنظام المتطور الذي يسمح لحركة الأموال والأشخاص بالعمل في كل مكان فإن المنطق فرض أن ينطلق هذا النموذج من الدولة التي انطلقت منها فكرة العولمة، ولما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتقد بأن نظامها يعد النموذج الوحيد الذي يمنح الحرية التامة لحركة الأموال والأشخاص وأنها تنظر إلى المجتمعات الأخرى بأنها أقل تحرراً من نظامها الحالي، لهذا فإنها تعمل على نقل تجربتها إلى الدول الأخرى من أجل أن تتوحد الدول في القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ويطلق على هذه الحالة بالأمركة، وهذه الحالة وإن كانت معزولة عن العولمة التي تقوم على أساس حرية انتقال الأموال والأشخاص إلا أنها تعد مكملة للعولمة وجزءاً منها وبدونها لن تتمكن العولمة من تحقيق أهدافها.
ويحاول أنصار الأمركة تعزيز فرضها بقولهم إن النظام الأمريكي يسمح بشكل كبير بحركة الأموال والأشخاص ويوفر لهما الحماية لذلك، والمجتمع الأمريكي يتكون من عدة قوميات وأديان وأقليات متعددة، وإن النسبة الكبيرة الغالبة من الشعب الأمريكي هم من المهاجرين الذين ساهموا في بناء الدولة بشكل كبير، وإن ما تحظى به الولايات المتحدة الأمريكية من تقدم وتطور يعود لهؤلاء المهاجرين، وهذه الحالة لم تسجل في أية دولة أخرى، كما أن نظام الحكم الأمريكي والقوانين الأمريكية لا تميز بين المواطن الأمريكي والأجنبي، فالجميع يعيشون بشكل مختلف تماماً عن الدول الأخرى.
ومن الناحية العملية فإن الولايات المتحدة الأمريكية تملك أكبر الشركات المنتجة للسلع والخدمات في العالم وأنها أكبر دولة في العالم تستثمر أموالها في الخارج وتملك الشركات متعددة الجنسيات العملاقة، وهي الدولة المتميزة في صناعتها وتجارتها وهيمنتها على العالم، وتملك أكبر قوة عسكرية قادرة على حماية الأمن والاستقرار في العالم وتستطيع خلال فترة وجيزة الوصول إلى أية منطقة في الكرة الأرضية وتسيطر على الأرض والجو والفضاء، فجميع هذه المسلمات تجعل من نظامها النظام النموذج الذي يجب أن تأخذ به جميع الدول بما فيها الدول المتطورة.
ولما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتميز في الاتجاهات كلها، وأنها تطل على العالم بما تملكه من قدراتها فإن المنطق كما يرى أصحاب الأمركة يقضي بعدم التفريد والانتقاء في نقل هذا النظام للعالم، فإما أن يؤخذ كنظام متكامل أو لا يؤخذ.
والتوجه الأمريكي بفرض الأمركة على العالم من كونها أحادية القطب، وأنها أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي النموذج المنتصر الذي كان يحقق هذا الانتصار لولا تفوقه في النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وأنها القوة العظيمة في هذا العالم التي يجب أن تسود على الكرة الأرضية.
ومن أجل ذلك عملت الولايات المتحدة في برنامج عمل متكامل لزيادة تمكنها من الهيمنة على العالم وفقاً لما يأتي:

1-استعمال السوق العالمية بوصفه أداة للإخلال بالتوازن لا سيما الاجتماعي في الدول القومية وتجريدها من نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية.

2- تركيز الاهتمام بالإعلام ووسائل الاتصال الحديثة وتوظيفها لإحداث التغيرات المطلوبة على الصعيدين الوطني والدولي وإنشاء طبقة جديدة من المثقفين والتكنوقراط الذين تغذوا على الثقافة والإعلام الغربي حتى صاروا جزءاً منه.

3-التشديد على اختيار السوق الموقع الفعلي للمنافسة، حيث يكون هذا السوق ساحة للكسب الفردي الأناني، وأن يقوم السوق بدور المصفاة لاستبعاد الضعفاء عملاً بالمبدأ القائل البقاء للأصلح والأقوى.

ويترتب على هذه الفرضيات نتائج خطيرة، منها أن كل مجتمع من المجتمعات الدولية يفقد خصوصيته الوطنية والثقافية والاجتماعية والدينية والإنسانية، وتصبح المادة هي الأساس في العلاقات البشرية وينتهي دور الحضارات الخاصة والبعد التاريخ والتراث الإنساني.

وإذ تحاول الأمركة أن تجسد الإمبراطورية، وأن تكون تعبيرها الوحيد المحتكر لكل خصائصها، فإن الضرورة تقضي بتفعيل مظاهرها المؤكدة لسلطانها الواقعي، وأهم هذه المظاهر، ولا شك، هي عروض الحروب وتمثيلياتها الرهيبة والمتنقلة من مسرح أممي إلى آخر. فالأمركة رشحت نفسها إذن لتكون التجسيد الأحدث، وربما الأخير، لثقافة الإمبراطورية، ورموزها التقليدية وأفاعيلها المتدخلة في أخص شؤون الكيانات الحضارية والسياسية القائمة في عالم اليوم والغد.

تستخدم الأمركة المنطق الإمبراطوري لتأمر بقسمة العالم لمن هو معها أي من أتباعها ومن رعيتها، ولمن هو ليس كذلك، وقد يكون ضدها وليس معها، فالمنطق الإمبراطوري لا يقبل المساومة، وهو ضد التسوية مقدماً، ولا مجال للموقع الثالث ما بين موقعي الحاكم والمحكوم، أو القاضي والمتهم، أي بمعنى إلغاء مساحة الدفاع؛ إذ إن الإمبراطورية تجرد الدفاع من فعاليته مقدماً ما دام ليس له ثمة مكان شاغر يقع خارج سلطانها المطلق، فهل في مستطاع الأمركة أن تحقق فعلاً هذا الشرط الأصعب الذي هو علامة الإمبراطورية وامتيازها الأصلي؟ فالأمركة تلغي الدور الآخر، سواء أكان الآخر حليفاً أم صديقاً، لكن النوايا وحدها لا تكفي إن لم تردف بالاستطاعة والمقدرة، والأمركة تجرب مشروعها الإمبراطوري من المدخل العربي الإسلامي كالعادة.

وتعيد الأمركة تاريخ التجربة الأوروبية بكل ما فيها من التناقضات الرهيبة التي كلفت شعوب الغرب أهوال الإمبراطوريات العسكرية وحروبها الكونية، مع الفارق وهو أن إمبراطورية الأمركة عالجت نفسها بانفجار الإرهاب وضده داخل بنيانها الموهوم، في الوقت الذي توجد فيه عالمية العالم بكل ما لم تعرفه فيها بعد من أشكال المعارضات القادمة.

ومما لا شك فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية تملك القدرة الاقتصادية والتجارية والعسكرية الكبيرة لفرض هيمنتها على العالم. غير أن هذه القدرة ليست قائمة على أساس العدل والحق والمساواة. فالمجتمع الأمريكي أكثر المجتمعات الغربية المتطورة يعاني العدالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن القلة القليلة هي التي تمتلك الثروة، بينما تعيش الأكثرية في حالة فقر مدقع، والنظام السياسي الأمريكي ليس هو النموذج الأفضل للديمقراطية، فالدستور الأمريكي يمنح الرئيس الأمريكي صلاحيات تفوق صلاحيات الكونغرس الأمريكي، وليس للكونغرس إلا حق رفض الاعتماد المالي الذي يطلبه الرئيس، ويحق للرئيس الأمريكي أن يرفض أي قانون يصدره الكونغرس الأمريكي، كما أن غالبية الشعب الأمريكي يعاني الجهل والتخلف، فما فائدة المتخلف بالديمقراطية وماذا تعني بالنسبة له؟ وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2000 قيدت العديد من الحريات منها إصدار قانون حق التنصت على المكالمات الهاتفية وحجز وتوقيف الأشخاص بمجرد الاشتباه، وتقييد حرية التنقل ومتابعة الأقليات الدينية والعرقية والحجز بدون مبرر، وما الأسرى في قاعدة غوانتانامو إلا المثل المعبر عن انعدام العدل والحق في النظام الأمريكي.

ويضاف إلى ذلك أن الشعب الأمريكي أكثر شعوب العالم تفشياً للجريمة المنظمة والمخدرات والتمييز العنصري وانعدام الأمان في كل مكان، ويكفي أن نقول أن الحركة الصهيونية تهيمن على إصدار القرار الأمريكي.

وبذلك يمكن أن نقول أن النموذج الأمريكي لا يصلح حتى للولايات المتحدة الأمريكية. وكان عليها أن تأخذ بالأنظمة التي تحقق العدالة الاجتماعية.

وإذا كان من أسباب احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية نقل الأمركة للعراق المنيع عليها سابقاً، فقد ثبت أن تصرفات الجنود الأمريكان في العراق عكست بشكل صادق توجهات الأمركة وما تحمله من قيم ومبادئ طبقت على أرض الواقع.

فبعد نشر صور التعذيب في سجن أبي غريب قال الرئيس الأمريكي بوش في حزيران من عام 2004 بأن هؤلاء لا يمثلون الأمريكيين وأنهم لا يمثلون أخلاقنا وليسوا أمريكيين، وهذا القول يجانب الحقيقية، بل إن التعذيب والانحراف يمثل الشخصية الأمريكية بصورة كاملة، تلك الشخصية التي تعمل على تعميمها على العالم، وهو ما يطلق عليه (بأخلاق الأمركة)، فمن درس الوضع الاجتماعي أو عاش في أمريكا يؤمن تماماً بأن ما جرى هو تجسيد للشخصية الأمريكية القائمة على القتل والتدمير والرذيلة وليس حالة شاذة كما يريد أن يصورها البعض زيفاً.

وهذا الوصف لا ينطبق على شريحة معينة من المجتمع الأمريكي بل إنه ثقافة قومية تشمل كل الولايات المتحدة بمختلف ولاياتها وشرائحها الاجتماعية وطبقاتها، بل إنه ينسحب من القاعدة الشعبية الواسعة ليصل إلى صانعي القرار السياسي والاجتماعي والعسكري في الدولة، فمن لا يؤمن بهذا في المجتمع الأمريكي فإنه يكون معزولاً عن الواقع الأمريكي.

وقد نشأت الشخصية الأمريكية المتمردة على القيم والأخلاق من خلال أسلوب تكوين الدولة، فالكل يعلم كيف تكون الشعب الأمريكي وكيف قامت الدولة. ومن يدرس مواقف الرؤساء الأمريكيين الـ (43) رئيساً يجد بأنه لم يعمل أي منهم على بث القيم والأخلاقية والإنسانية، فكل رئيس نسخة مصورة لما قبله.

وإذا كانت ثقافة القتل والتمرد والجريمة والجنس الشاذ حالة شاذة تعم المجتمع الأوروبي وأن النظام العام لا يتصدى لها، فإن هذه الثقافة محصورة في شرائح معينة في أوروبا، ولكنها حالة عامة في المجتمع الأمريكي ومنتشرة في كل زاوية من زوايا المجتمع ومتجذرة بشكل خاص في المؤسسة العسكرية، ذلك أن النظام العسكري السائد يقوم على تجريد الجندي الأمريكي من القيم والأخلاق، لأن التمسك بالقيم والأخلاق يقتضي استرجاع مبدأ المراجعة الذاتية الإنسانية، ومثل هذه المراجعة تفرض الرحمة والشفقة وهي أمور تتناقض مع هدف المؤسسة العسكرية.

فالنظرية الأمريكية في الحرب تقوم على أساس أن الجبهة المدنية والاقتصادية للعدو تعد امتداداً للجبهة العسكرية، وأن ضرب المدنيين وتدميرهم وانتهاك حرمتهم بقسوة يوقع خسائر فادحة بالعدو ويخلخل الجبهة العسكرية ويربكها وينشر الذعر فيها، ولهذا فإن الولايات المتحدة تحتفل في آب من كل سنة بذكرى ضرب هيروشيما ونكازاكي بحجة أنه لو لم تضرب تلك المدينتين لكانت الحرب العالمية الثانية مستمرة لحد الآن.

وهذا الموقف الأمريكي غير الإنساني الذي يجعل من المدنيين هدفاً عسكرياً مغرياً ويعرضهم للتدمير والحصار والتعذيب انسحب أيضاً على الموقف القانوني الرسمي، فالولايات المتحدة من أولى الدول التي عارضت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1947 واتفاقيات جنيف لعام 1949 الخاصة بحماية الأسرى والجرحى والغرقى والمدنيين في المنازعات المسلحة ومعاهدة روما لعام 1998 الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب، فكانت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني من بين سبع دول رفضت الانضمام لمعاهدة روما في الوقت الذي وافقت عليها 167 دولة.

ولم يكتف الموقف من القضايا للولايات المتحدة عند هذا الحد فحسب بل إنها تعمل في الوقت الحاضر على إجبار دول العالم عن طريق مجلس الأمن على الموافقة على استثناء الأمريكيين من ملاحقة محكمة الجنايات الدولية من تهم الجرائم الحرب الدولية ومن المحاكم المحلية في الولايات المتحدة ومن المحاكم الداخلية في العراق وأفغانستان؛ أي أنها تريد الحصانة للشعب الأمريكي من تهمة جرائم الحرب.

وهذا وحده يفسر الموقف الأمريكي الرسمي من القضايا الأخلاقية والإنسانية وخاصة التعذيب، وهذا الموقف يغني الكلام عن الشخصية الأمريكية القائمة على القتل والتدمير والانحراف الداعر.

وما جرى في معتقل أبي غريب يجسد الشخصية الأمريكية بشكلها الرسمي والشعبي بشكل دقيق، فبتاريخ 24/6/2004 نشرت الإدارة الأمريكية وثائق مفادها أن وزير الدفاع رامسفيلد أصدر أوامره لحراس قاعدة غوانتنامو بتعذيب الأسرى في الحرب على أفغانستان وبعد مدة أمر بوقفها. وهذه الوثائق نشرتها الإدارة الأمريكية لتلقي بالتهمة على وزير الدفاع، وهذا يعني أن الموقف الرسمي الأمريكي يقر التعذيب ويحدد وسائله. وقد شاهد الناس أنواع التعذيب التي تعرض لها المعتقلون في سجن أبي غريب وحده، وشاهدوا ما لم يأمر به وزير الدفاع ولم يشاهدوا ما أمر به الوزير لعدم إمكان تصويره، وهي منع الماء والغذاء والتعرض للضوء ومنع الضوء.

ونضيف إلى ذلك وجود مؤسسة رسمية في البنتاغون خاصة بالتعذيب، يطلق عليها (منظومة التوتر السرية للتعذيب) مهمتها الوحيدة التدريب على التعذيب، كما تم التعاقد مع شركات خاصة للقيام بالتعذيب في سجن أبي غريب، وهذه الشركات يتم التعاقد معها بشكل رسمي.

وإذا نظرنا إلى الصور المتوافرة للتعذيب فنجدها جميعاً حالات خارج صور التعذيب التي أمر بها وزير الدفاع الأمريكي، وعند التمعن في صور التعذيب نجد أن التعذيب حدد من قبل خبراء متخصصين عبر دراسات معينة؛ إذ درسوا أن تعذيب المواطن العراقي أو العربي بالطرق الاعتيادية كالتشويه والضرب وإن وصل ذلك حد الموت إنما يعزز من معنوية المعذب معتقداً بأنه قد انتصر لمبادئه أو أنه اقترب لله تعالى، ولهذا ينبغي البحث عما يؤثر في المعذّب من تعذيب بحيث تحط من قيمته وكرامته وتجعله ينهار بشكل تام، فوجد هؤلاء المتخصصون أن التأثير على منظومتين هما الشرف والدين تضع المعذب في موضع انهيار. ومن هنا نقول إن القائمين بالتعذيب لا يفهمون هذه المنظومتين بسبب جهلهم وقلة ثقافتهم، وإنما زودوا بها من قبل جهات عليا علمتهم كيف يوجه التعذيب وما هو المؤثر فيه.

فخلع الملابس والاعتداء الجنسي على المعذبين وإجبارهم على تناول الخمور والمحرمات في رمضان إنما هي من المسائل الحساسة للمواطن العربي المسلم. وممارسة التعذيب في مثل هذه الأمور في الجيش الأمريكي لا تتطلب البحث عن أشخاص فقدوا الضمير والقيم فكل جندي أمريكي قادر على أن يقوم بهذا العمل.

فتعذيب الأسرى والمعتقلين يعد حالة مألوفة وتسلية يومية للجنود الأمريكيين في المعتقلات العراقية، فهذا الجندي يأخذ صورة تذكارية مع أسير قلعت عيناه ومات بسبب التعذيب لتكون له ذكرى يتسلى فيها طيلة حياته وينقلها لأولاده، وجندي آخر يضع أكواماً من المعذبين ويجلس عليهم للراحة، وآخر يسحب أسيراً بحبل من رقبته، وآخر يغمس سكينه في صدر امرأة ليمارس معها الجنس، وآخر يجعل الأسير طعاماً لكلبه، وآخر يصوب بندقيته ليقتل طفلاً يلهو فوق سطح منزل أهله، وآخر يربط الأسير بالكهرباء ليقتله، وهو يغرق ضحكاً.

وإذا ما حللنا كل صورة من الصور الخاصة بالتعذيب فإننا نجد كل واحدة منها تعبر عن الانحطاط الخلقي للشخصية الأمريكية، ويبدو أن الأمر أكثر مما نراه، فما نشاهده من مرح القائمين بالتعذيب والبهجة والسرور يجعلنا نؤمن بأن ما يقومون به من تعذيب وقتل وامتهان للكرامة كان على سبيل التسلية وقضاء الوقت، ولربما ضاقت الدنيا بهم ذرعاً فتوجهوا إلى المعتقلين ليتسلوا بأجسادهم وكرامتهم.

وإذا ما انتقلنا من المواقع العسكرية داخل الجدران التي تحكمها اللوائح العسكرية وهيمنة المسؤولين فيها إلى تحرك القوات الأمريكية داخل المدن العراقية وخارجها نجد أن تصرفات الجنود الأمريكيين لا تختلف عن زملائهم داخل السجون والقواعد العسكرية، فهي تصرفات مشينة ومتهورة وتدل على أنهم لا يعرفون الأخلاق والقيم الإنسانية، فإذا ما تعرض رتل عسكري إلى إطلاقة من سلاح خفيف توجهت فوهات المدرعات والدبابات صوب المواطنين المدنيين تقتل ما تستطيع قتله دون التمييز بين الطفل والشيخ الفاني والمرأة المستطرقة. وإذا كان الرتل يسير في داخل مدينة وحصلت زحمة سيارات فقد يحصل أن تقوم الدبابات الأمريكية بالسير فوق السيارات دون الاهتمام بمن كان داخل هذه السيارات. وإذا ما سارت مجموعة مدرعات أمريكية في شارع وكانت هناك سيارة متوقفة بسبب عطل إطارها فإنها ستحصل على قذيفة تحرقها وتحرق من في داخلها. وإذا أراد شخص الانتقام من شخص فإنه يذهب إلى القوات الأمريكية ويقول لهم هذا مقاوم أو إن مجموعة من المقاومين تسكن هذا البيت أو الجامع، إذ إن هذا الهدف يعالج بمجموعة من الصواريخ من قبل الطائرات المقاتلة دون التأكد ممن كان في هذا الهدف. وإذا ما أريد القبض على شخص واحد من داخل منزله فإن الطائرات تحوم فوق داره وتطوقه عشرات المدرعات والدبابات ويقوم الجنود بضرب قنابل لخلع الأبواب والقيام بعملات بهلوانية من سطح الدار وحديقته ومن ثم القبض على الشخص مع ترويع العائلة من الأطفال والنساء وقيادتهم مكبلين على وجوههم بدون وازع من ضمير وذرة إنسانية، وهذا نزر قليل من كثير مما يعانيه المواطنون العراقيون من حالات لا يتسع المجال لذكرها.

وإذا كانت الإدارة الأمريكية تعمل من أجل أمريكا فإن عليها أن تعالج هذه المأساة في داخل المؤسسة العسكرية وأن تضع لها الدراسات والمناهج التعليمية والإعلامية للقضاء عليها، وليس العمل على تعميمها على شعوب العالم تحت شعار الأمركة، فلا تكفي عبارات التأسف والاعتذار، فمثل هذه الأمور لا تصلح مجتمعاً. ولم نسمع من رئيس أي دولة أمريكي البالغ عددهم (43) رئيساً ولا من المسؤولين الأمريكيين في الكونغرس الأمريكي والمسؤولين العسكريين ولا الباحثين والعلماء أنهم سيعملون على معالجة الشخصية الأمريكية الشاذة. تلك الشخصية التي يراد بها أن تطبق على العالم أجمع.
إذن فهذا هو مفهوم الأمركة الذي تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن تعممه على العالم.

المصدر: رابطة شباب مستقبل سوریة

إضافة تعليق جديد