مبدأ التشيـع وتـاريخ نشأته
مبدأ التشيـع وتـاريخ نشأته
زعم غير واحد من الكتاب القدامى والجدد : أن التشيع كسائر المذاهب الإسلامية من إفرازات الصراعات السياسية ، في حين يذهب البعض الآخر إلى القول بأنه نتاج الجدال الكلامي والصراع الفكري .
فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلامية ، وكأنهم يتلقون التشيع بوصفه ظاهرة جديدة وافدة على المجتمع الإسلامي ، ويعتقدون بأن القطاع الشيعي وإن كان من جسم الأمة الإسلامية إلا أنه تكون على مر الزمن نتيجة لأحداث وتطورات سياسية أو اجتماعية فكرية أدت إلى تكوين هذا المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير ، ومن ثم اتسع ذلك الجزء بالتدريج .
ولعل هذا التصور الخاطئ لمفهوم التشيع هو ما دفع أصحاب هذه الأطروحات إلى التخبط والتعثر في فهمهم لحقيقة نشوء هذا المذهب ، ومحاولاتهم الرامية لتقديم التفسير الأصوب ، ولو أن أولئك الدارسين شرعوا في دراستهم لتأريخ هذه النشأة من خلال الأطروحات العقائدية والفكرية التي ابتني عليها التشيع لأدركوا بوضوح ودون لبس أن هذا المذهب لا يؤلف في جوهر تكوينه وقواعد أركانه إلا الامتداد الحقيقي للفكر العقائدي للدين الإسلامي والذي قام عليه كيانه .
وإذا كان البعض يذهب إلى الاعتقاد بأن التشيع يظهر بأوضح صوره من خلال الالتفاف والمشايعة للوصي الذي اختاره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خليفة له بأمر الله تعالى ليكون قائدا وإماما للناس - كما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) - ففي ذلك أوضح المصاديق على حقيقة هذا النشوء الذي اقترن بنشوء وتبلور الفكر الإسلامي الكبير ، والذي لا بد له من الاستمرار والتواصل والتكامل حتى بعد رحيل صاحب الرسالة ( صلى الله عليه وآله ) ، والذي ينبغي له أن يكون الاستمرار الحقيقي لتلك العقيدة السماوية وحامل أعباء تركتها .
فإذا اعتبرنا بأن التشيع يرتكز أساسا في استمرار القيادة بالوصي ، فلا نجد له تأريخا سوى تأريخ الإسلام ، والنصوص الواردة عن رسوله ( صلى الله عليه وآله ) .
قد عرفت في الصفحات السابقة نصوصا متوفرة في وصاية الإمام أمير المؤمنين ، وإذا كانت تلك النصوص من القوة والحجية التي لا يرقى إليها الشك ، وتعد وبدون تردد ركائز عقائدية أراد أن يثبت أسسها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فهي بلا شك تدل وبوضوح على أن هذه الاستجابة اللاحقة استمرار حقيقي لما سبقها في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإذا كان كذلك فإن جميع من استجابوا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وانقادوا له انقيادا حقيقيا ، يعدون بلا شك رواد التشيع الأوائل وحاملي بذوره ، فالشيعة هم المسلمون من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان في الأجيال اللاحقة ، من الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة ، ولم يغيروه ، ولم يتعدوا عنه إلى غيره ، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص ، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ( 1 ) ففزعوا في الأصول والفروع إلى علي وعترته الطاهرة ، وانحازوا عن الطائفة الأخرى من الذين لم يتعبدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة ، حيث تركوا النصوص ، وأخذوا بالمصالح .
إن الآثار المروية في حق شيعة الإمام عن لسان النبي الأكرم - والذين هم بالتالي شيعة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) - ترفع اللثام عن وجه الحقيقة ، وتعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصي ، فكانوا معروفين بشيعة علي في عصر الرسالة ، وإن النبي الأكرم وصفهم في كلماته بأنهم هم الفائزون ، وإن كنت في شك من هذا فسأتلو عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام :
1 - أخرج ابن مردويه عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله من أكرم الخلق على الله ؟ قال : " يا عائشة أما تقرئين : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } " ( 2 ) .
2 - أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأقبل علي فقال النبي : " والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة " ، ونزلت : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } فكان أصحاب النبي إذا أقبل علي قالوا : جاء خير البرية ( 3 ) .
3 - أخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا : " علي خير البرية " ( 4 ) .
4 - وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال : لما نزلت : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : " هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين " .
5 - أخرج ابن مردويه عن علي قال : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " ألم تسمع قول الله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } أنت وشيعتك ، موعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين " ( 5 ) .
6 - روى ابن حجر في صواعقه عن أم سلمة : كانت ليلتي ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندي فأتته فاطمة فتبعها علي - رضي الله عنهما - فقال النبي : " يا علي أنت وأصحابك في الجنة ، أنت وشيعتك في الجنة " ( 6 ) .
7 - روى ابن الأثير في نهايته : قال النبي مخاطبا عليا : " يا علي ، إنك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه عدوك غضابا مقمحين " ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح . قال ابن الأثير : الإقماح : رفع الرأس وغض البصر ( 7 ) .
8 - روى الزمخشري في ربيعه : أن رسول الله قال : " يا علي ، إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله تعالى ، وأخذت أنت بحجزتي ، وأخذ ولدك بحجزتك ، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم ، فترى أين يؤمر بنا ؟ " ( 8 ) .
9 - روى أحمد في المناقب : أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال لعلي : " أما ترضى أنك معي في الجنة ، والحسن والحسين وذريتنا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذريتنا ، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا " ( 9 ) .
10 - روى الطبراني : أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال لعلي : " أول أربعة يدخلون الجنة : أنا وأنت والحسن والحسين ، وذريتنا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذرياتنا ، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا " ( 10 ) .
11 - أخرج الديلمي : " يا علي ، إن الله قد غفر لك ولذريتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك ، فأبشر فإنك الأنزع البطين " ( 11 ) .
12 - أخرج الديلمي عن النبي أنه قال : " أنت وشيعتك تردون الحوض رواء مرويين ، مبيضة وجوهكم ، وإن عدوك يردون الحوض ظماء مقمحين " ( 12 ) .
13 - روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله : " يدخلون من أمتي الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم - ثم التفت إلى علي فقال : - هم شيعتك وأنت إمامهم " ( 13 ) .
14 - روى المغازلي عن كثير بن زيد قال : دخل الأعمش على المنصور ، فلما بصر به قال له : يا سليمان تصدر ، قال : أنا صدر حيث جلست - إلى أن قال في حديثه : - حدثني رسول الله قال : " أتاني جبرئيل ( عليه السلام ) آنفا فقال : تختموا بالعقيق ، فإنه أول حجر شهد لله بالوحدانية ، ولي بالنبوة ، ولعلي بالوصية ، ولولده بالإمامة ، ولشيعته بالجنة " ( 14 ) .
15 - روى ابن حجر : أنه مر علي على جمع فأسرعوا إليه قياما ، فقال : " من القوم ؟ " فقالوا : من شيعتك يا أمير المؤمنين ، فقال لهم خيرا ، ثم قال : " يا هؤلاء ما لي لا أري فيكم سمة شيعتنا وحلية أحبتنا ؟ " فأمسكوا حياء ، فقال له من معه : نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم ، لما أنبأتنا بصفة شيعتكم فقال : " شيعتنا هم العارفون بالله ، العاملون بأمر الله " ( 15 ) .
16 - روى الصدوق ( 306 - 381 ه ) : أن ابن عباس قال : سمعت رسول الله يقول : " إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعد الله تبارك وتعالى لشيعة علي من الثواب والزلفى والكرامة . . . " ( 16 ) .
17 - وروى أيضا بسنده إلى سلمان الفارسي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : " يا علي تختم باليمين تكن من المقربين ، قال : يا رسول الله ومن المقربون ؟ قال : جبرئيل وميكائيل ، قال : فبما أتختم يا رسول الله ؟ قال : بالعقيق الأحمر ، فإنه جبل أقر لله بالوحدانية ، ولي بالنبوة ، ولك يا علي بالوصية ، ولولدك بالإمامة ، ولمحبيك بالجنة ، ولشيعتك وشيعة ولدك بالفردوس " ( 17 ) .
وهذه النصوص المتضافرة الغنية عن ملاحظة أسنادها ، تعرب عن كون علي ( عليه السلام ) متميزا بين أصحاب النبي بأن له شيعة وأتباعا ، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها ، في حياة النبي وبعدها ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) يشيد بهم ويبشر بفوزهم ، وهم - بلا ريب - ليسوا بخارجين قيد أنملة عن الخط النبوي المبارك للفكر الإسلامي العظيم ، والذي يؤكد على حقيقة التشيع ومبدئه الذي لا يفترق عن نشوء الدين واستقراره .
فبعد هذه النصوص لا يصح لباحث أن يلتجئ إلى فروض ظنية أو وهمية في تحديد تكون الشيعة وظهورها.
المصدر: شیعة وبب
إضافة تعليق جديد