ليالي الأنس والطاعة
تحقيق: زهراء عودي شكر
استفاق الرجل التسعيني، السيد أبو أحمد، صباح يوم الثالث والعشرين من شهر رمضان بحيويّة غير معهودة، كان قد افتقدها منذ مدّة بعيدة نظراً للأوجاع التي ألمّت به. ومع حلول وقت صلاة الظهر توجّه إلى المسجد فصَدح صوته بالأذان بدلاً من صوت المذياع الذي أخذ مكانه لشهورٍ خلت. ومع انتهاء الصّلاة سلَّم السيد أبو أحمد على إمام المسجد وحكى له سرَّ عافيته التي وهبه الله إيّاها (بمعجزة) خلال تضرّعه له في ليلة القدر.
ما هي أسرار ليلة القدر وألطافها وأهمية التوسل والعبادة فيها؟ وما تأثيرها على عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر؟
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.
*زمن خاص
ميّز الله تعالى بعض ليالي وأيام وشهور السنة عن غيرها وخصّها بعناياتٍ وبركاتٍ، لها وقعٌ وأثرٌ على نفسيّة الإنسان المؤمن وعلى سيرة حياته العمليّة وعلى مسلكيّاته الدنيويّة والأخرويّة. ومن هذه الأزمنة الخاصّة ليلة القدر التي تعدّ أعظم ليالي السنة، فقد أُنزلت سورة كاملة في القرآن الكريم باسم هذه الليلة، كما وردت خصوصيّاتها في أكثر من سورة. ومن كرم الله على عباده، أن هذه الليلة المباركة تتكرّر كلّ عام لكي يستفيدوا من البركات الوفيرة والهبات الإلهيّة المختلفة التي خُصّت بها. وأما مواقيتها، فيقدّرها الأئمة المعصومون عليهم السلام بحسب تفسير القرآن الكريم على أنها إحدى ليالٍ ثلاث: ليلة التاسع عشر، والحادي والعشرين، والثالث والعشرين من شهر رمضان، وبناءً على الروايات تعدّ الليلة الثالثة والعشرون هي الليلة الكبرى.
*بيوت الله عامرة في ليالي القدر
لا يخفى ما تحمله ليلة القدر من مراتبَ عروجيّةٍ يتسابق عليها المؤمنون ويصرون على إحيائها، طمعاً بِنَيلِ أعلى مراتب الإيمان، ويأملون تحقّق حوائجهم الدنيويّة والأُخرويّة، فلهذه الليلة كثيرٌ من المعاني والأسرار، عبّر عنها القرآن الكريم بالقول: : ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾!! وللوقوف أكثر عند أهمية هذه الليلة ومفهومها بين الناس وكيفية تعاطيهم معها، كان لنا وقفة مع مجموعة من الآراء عكست لنا مشهد الاهتمام بالليلة المباركة، ومدى التأثّر الروحي والإيماني والعقائدي بها.
بالعودة إلى السيد أبو أحمد، يروي لنا فضل ليلة القدر عليه والنعمة التي كلّلته بها قائلاً: "كنت جالساً على زاوية الشرفة في منزلي، أسمع أصوات الصلوات والدعاء يعلو من المسجد وأنا عاجز عن مشاركتهم لسوء حالتي الصحيّة المستمرة فصرت أناجي ربي في حرقة وألم. ولشدّة التوسّل شعرت بالعافية تدبّ في جسدي وتنفضّ أوجاعي التي زالت عنّي من تلك الليلة، وما هذا إلا من ألطاف الله وفضل هذه الليلة".
وفيما يخصّ الحاجة مريم والتي تتردّد على المسجد بشكل دائم وخصوصاً في المناسبات والليالي المهمّة فهي تجد فيه بيتها الثاني، "لا أتكاسل عن الذهاب إلى المسجد خصوصاً أيام الثلاثاء والخميس والجمعة، وأواظب عليه دائماً في ليالي القدر والمناسبات الدينية الأخرى، ففيها الأجر يتضاعف. ففي المسجد الأجواء مهيأة للإحياء، والمشاركة الجماعيّة ما يجعلُني أكثر يقظةً وخشوعاً وإدراكاً لمعاني الليالي المباركة".
*وللصّغار حصّة
وكما الكبار، لحضور الصغار حصّة كبيرة في المشاركة بإحياء ليالي القدر، فالسيدة أم محمد تتعمّد صحبة أطفالها إلى المسجد خصوصاً في هذه الليالي، مؤكّدة أنّه "من شبّ على شيء شاب عليه، فالطفل أرض خصبة كما نزرعها تُنبت، وحريٌّ بنا أن نلقي فيها البذور الطيّبة. أضف إلى ذلك أن الجوّ الروحيّ الذي تولّده هذه الليالي، ينعكس إيجاباً على نفسيّة الصغار كما الكبار".
أما عن بركات الدعاء ودوره في القضاء الإلهي في هذه الليالي المباركة، فيعتقد الحاج حمزة أنّ "الدعاء راحة للإنسان في أيّ وقت، وفي ليالي القدر هو أنسٌ وطاعة وبالتالي استجابة، لذا، مهم جداً أن لا نفوّت هذا الكرم والفضل الإلهي علينا وأن نستغل كل لحظة في طلب العفو عن المعاصي التي اقترفناها خلال العام، والدعاء لخير الدنيا والآخرة، فعظمة الليلة والدعوة إلى القيام بها، يقابلها الله بباقة من الكرامات والثواب والغفران".
*الدعاء جسر للعبور الى مرضاة الله
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186). إن لدعاء ليلة القدر وعباداتها نكهة وميزة خاصة، وهذا ما يشجع الناس على إحيائها في المساجد والمجمّعات الدينية الموجودة في أرجاء المناطق. وفي هذا السياق نلفت إلى فضل الأدعية والأعمال الجماعية، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجتمع أربعون رجلاً في أمرٍ واحدٍ، إلاّ استجاب الله تعالى لهم، حتّى لو دعوا على جبلٍ لأزالوه"1.
*رأي الدين
وفي الحديث عن ليلة القدر ودورها في المصير والقضاء الإلهي، كان لنا محطة مع المسؤول الثقافي لحزب الله، في البقاع، السيد فيصل شكر الذي أضاء على استفساراتنا حول الموضوع.
فبالحديث عن أهمية إحياء ليالي القدر، وأبرز الأمور التي يستفيد منها الإنسان من خلال هذه الإحياءات، يقول السيد: إن "الأهمية تكمن فيما ورد في النصوص القرآنية، والخطبة التي نقلت عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، آخر جمعة من شهر شعبان، أنها ليلة خير من ألف شهر. فهذا المقدار الزمني هو بحسب المدى الزمني للشهر الدنيوي، أما إذا كان بحسب الحساب الأخروي فإنّ قيمة الليلة تتجاوز هذا المقدار، ودرجات الآخرة مرتبطة بنوعيّة العمر الذي نمضيه فكل زرع طيب يثقل الميزان. وأما الاستثنائية في الزمن فهو أن شهر رمضان عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيّام وساعاته أفضل الساعات ولياليه أفضل الليالي ويظهر ذلك في قيمة الأعمال المضاعفة بشكل غير موصوف أو مسبوق".
ويضيف السيد فيصل أن أهمية ليلة القدر تظهر على الإنسان "في أثرها في مجالات التأديب والتربية، وفي الطرق التي يتزوّد بها الإنسان من الليلة لتجاوز عقبات يوم القيامة، وعلى الصراط، ويوم الحساب، وفي الميزان. ويتجلّى أثرها بين الناس في تنشيط حركة التواصل الاجتماعي والمعنوي، وتعزيز العلاقة مع الله والمجتمع. فالفائدة هي برسم الإنسانيّة عموماً والمسلمين خصوصاً ونلحظ ذلك من الخطاب الذي توجّه به النبي في خطبة استقبال الشهر الفضيل.
أما الفوائد الإضافية التي تعمّ البشرية كافة في ليلة القدر فهي تتعلق بأمور ثلاثة: البركة، الرحمة، المغفرة. وهذه الفيوضات الإلهية قد لا تتوقّف الاستفادة منها على الحضور على مائدة الرحمان، وفيها تشكيل كامل العطايا الإلهية، لأن الله جعل الإنسان، في هذا الشهر، من أهل الكرامة في التسبيح التكويني اللاإرادي، والعبادة الخارجة عن مألوف العبادات".
*ألطاف ربّانية
وبما أن ليلة القدر نعمة وعطاء ربّاني، لذا، لا بدّ أن نستعدّ للألطاف الربّانية لهذه الليلة، كما يضيف السيد فيصل: "إن الاستعداد لا يكون إلا عبر تحضير المقدمات. والمقدمة الأولى هي تطهير النفس والقلب، وهي شرط لاستجابة الدعاء، ولإحداث أعظم تغيير في سلوكيّات الفرد في موردي تلاوة الكتاب لتعزيز المعرفة من جهة، والصوم الحقيقي الذي لا يكون إلا بتحويله من تقليد إلى صوم تربويّ يحقّق أعظم هدف تغييري في مكوّنات شخصيّة الفرد المؤمن، من جهة أخرى".
وعن كيفية تأثير مفهوم ليلة القدر على عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر والوعي بهما عند المسلمين، يجيب السيد قائلاً: "نحن عندما نعتقد أن تعديل القضاء والقدر هو تقدير إلهي، نعتقد أيضاً أن هذا لا يمكن إدراكه إلا بإدراك العدل وحقيقة الرحمة الإلهية. ومفاد ذلك أن الله العادل لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا وأحصاها وحاسب عليها ولكنه بمقتضى الرحمة الإلهية يعطي الإنسان فسحة أمل تتناسب مع تحقيق الهدف المرجو من الخلق وهو الوصول إلى الله بتسهيل ذلك. وهكذا، يصل الإنسان المستفيد من الفرص إلى النجاح بمقتضى الرحمة لا بمقتضى العدل".
*الإحياء الجماعي
أما بالنسبة إلى المشاركة بالإحياءات الجماعية في المساجد والمجمعات، وميزتها عن الإحياءات الفردية، فيعتبر السيد أن "الحضور إلى المساجد هو بحدّ ذاته مستحب وتشجع عليه السنة النبوية، سواء في صلوات الجماعة أم في المناسبات، فصلاة الجماعة أجرها مضاعف عن صلاة الفرادى. وهكذا الإحياءات في ليلة القدر التي تجعل الإنسان ينشط في إحياء الشعائر وتساعده على تشكيل أول عمليّة تواصل اجتماعي من خلالها".
ويختم السيّد فيصل حديثه قائلاً: "ما أنصح به أن لا يكون الإحياء الجماعي في المسجد على حساب الروحية التي ينبغي للفرد أن يحققها من الإحياءات نفسها. وأهم ما أوصي به هو الدعاء والإصرار عليه لفرج مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف والدعاء للمجاهدين الذين يقاتلون في كل الأقطار بالحفظ والتمكين والتسديد والنصرة والثبات.
وأما عن مشاركة الأطفال في المساجد فلا مانع منها، لا سيّما لجهة تعويد الصغار على مثل هذا الجوّ المعنوي والروحي لأن إقصاء الصغار عن المسجد سيجعل الولد بعيداً عن تلك المائدة".
*وفي الختام
لقد هيّأ الله تعالى لنا فرصاً دنيوية ثمينة، لها أبعاد أخروية عظيمة تتنوّع أبوابها ما بين المغفرة والرحمة وتقسيم العافية والرزق وغير ذلك الكثير من العطاءات الإلهية، والفائز هو من يستغل هذه الفرص ويبذل كل ما بوسعه من همّة للاستفادة منها. ومن أثمن هذه الفرص الإلهية ليالي القدر التي ساواها بعبادة ألف شهر، فحريٌّ بنا الاهتمام بها وإحياؤها في ذكر الله والسعي إلى طاعته وطلب مغفرة الذنوب لنا ولأرحامنا، والدعاء لنصر المجاهدين وإعانة المظلومين والمحرومين.
1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج90، ص394.
المصدر: مجلة بقية الله
إضافة تعليق جديد