كيف يحتجب الإمام المهدي عن الأنظار ؟
ونريد به الاُسلوب الأساسي الذي يتّبعه (عليه السّلام) في احتجابه عن الناس ، ونجاته من براثن الظلم ، وبمعرفتنا لهذا الاُسلوب سيسهل علينا الجواب على عدد كثير من الأسئلة التي تُثار إنْ شاء الله تعالى .
نواجه في بادئ الأمر ، في اُسلوب احتجابه اُطروحتين أساسيّتين :
الاُطروحة الأولى : اُطروحة خفاء الشخص :
وهي الاُطروحة التقليدية المتعارفة المركوزة في ذهن عدد من الناس ، وتدلّ عليه ظواهر بعض الأدلّة على ما سنسمع ، وهي أنّ المهدي (عليه السّلام) يختفي جسمه عن الأنظار ، فهو يرى الناس ولا يرونه ، وبالرغم من أنّه قد يكون موجوداً في مكان إلاّ أنّه يُرى المكان خالياً منه .
أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) بإسناده عن الريان بن الصلت ، قال : سمعتُه يقول : سُئل أبو الحسن الرضا (عليه السّلام) عن القائم (عليه السّلام) ، فقال : ( لا يُرى جسمه , ولا يُسمّى باسمه ) .
وأخرج بإسناده عن الصادق جعفر بن محمّد (عليه السّلام) في حديث : قال : ( الخامس مِن وُلْد السابع يغيب عنكم شخصه , ولا يحلّ لكم تسميتُه ) .
وأخرج أيضاً بإسناده عن عبيد بن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول : ( يفقد الناس أمامهم , فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه ) .
وهذه الاُطروحة هي أسهل افتراض عملي لاحتجاب الإمام المهدي (عليه السّلام) عن الناس ، ونجاته من ظلم الظالمين ؛ فإنّه في اختفائه هذا يكون في مأمن قطعي حقيقي من أي مطاردة أو تنكيل ، حيثما كان على وجه البسيطة .
وهذا الاختفاء يتمّ عن طريق الإعجاز الإلهي ، كما تمّ طول عمره لمدى السنين المتطاولة بالإعجاز أيضاً ، وكان كلا الأمرين لأجل حفظ الإمام المهدي (عليه السّلام) عن الموت والأخطار ؛ لكي يقوم بالمسؤولية الإسلاميّة الكبرى في اليوم الموعود .
ونحن نعلم بالدليل القطعي في الإسلام أهمّية هذا اليوم الموعود عند الله (عزّ وجلّ) وعند رسوله ؛ فإنّه اليوم الذي يتحقّق به الغرض الأساسي من خَلْق البشرية ـ على ما سنعرف ـ وتتنفّذ به آمال الأنبياء والمرسلين ، وتتكلّل جهودهم بالنجاح ؛ بوجود المجتمع العادل وإنجاز دولة الحق ، كما أننا نبرهن(2) على أنّ الأهداف الإلهية المهمّة إذا توقّف وجودها على المعجزة ، فإنّ الله تعالى يوجدها لا محالة لا محالة ؛ من أجل تحقيق ذلك الهدف المهم .
وإذا نعتقد ـ كما هو المفروض في هذا التاريخ ـ بولادة الإمام المهدي (عليه السّلام) المذخور لليوم الموعود ، يتبرهن لدينا بوضوح كيف ولماذا تعلّق الغرض الإلهي بحفظه وصيانته كما تعلّق بطول عمره ، فإذا كانت صيانته منحصرة باختفاء شخصه ، لزم على الله (عزّ وجلّ) تنفيذ هذه المعجزة ؛ وفاء بغرضه الكبير .
وتضيف هذه الاُطروحة الأُولى قائلة : بأنّ هذا الاحتجاب قد يزول أحياناً عندما توجد مصلحة في زواله , كما لو أراد المهدي (عليه السّلام) أنْ يقابل شخصاً من البشر لأجل أنْ يقضي له حاجة , أو يوجّه له توجيهاً , أو ينذره إنذاراً ؛ فإنّ المقابلة تتوقّف على رؤيته ولا تتمّ مع الاختفاء .
ويكون مقدار ظهوره للناس محدوداً بحدود المصلحة ، فإنْ اقتضتْ أنْ يظهر للناس ظهوراً تامّاً لكلّ رائي تحقّق ذلك ، واستمرّتْ الرؤية بمقدار أداء غرضه من المقابلة ، ثمّ يحتجب فجأة فلا يراه أحد ، بالرغم من أنّه لم يغادر المكان الذي كان فيه ، وإذا اقتضت ظهوره لشخص دون شخص تعيّن ذلك أيضاً ؛ إذ قد يكون انكشافه للآخرين خطراً عليه .
وعلى ذلك تحمل كلّ أخبار مشاهدة المهدي (عليه السّلام) خلال غيبته ، حتّى ما كان خلال الغيبة الصغرى ، وخاصّة فيما سمعناه في تاريخ الغيبة الصغرى(3) بأنّ المهدي (عليه السّلام) ظهر لعمّه جعفر الكذّاب مرّتين ، ثمّ اختفى من دون أنْ يعلم أين ذهب ، فإنّه يعطي أنّ الاختفاء كان على شكل هذه الاُطروحة .
وأمّا أخبار المشاهدة خلال الغيبة الكبرى فبعضها ظاهر في الدلالة على ذلك ، بل منها ما هو صريح به ، بل إنّ بعض هذه الأخبار تتوسّع ؛ فتنسب الاختفاء إلى فرسه الذي يركبه وخادمه الذي يخدمه ، بل حتّى الصرّاف الذي يحوّل عليه شخصاً لأخذ المال(4) .
وأودّ أنْ أشير في هذا الصدد إلى أنّ هذه الاُطروحة في غنى عمّا نَبَزَه بعضُ مؤرّخي العامّة على المعتقدين بغيبة المهدي (عليه السّلام) ، من أنّه نزل إلى السرداب واختفى فيه ولم يظهر ، كما سبق أنْ ناقشنا ذلك في تاريخ الغيبة الصغرى(5) ، وأنّ أخبار مشاهدة المهدي (عليه السّلام) في كلٍّ مِن غيبته الصغرى والكبرى مجمعة على مشاهدته في أماكن أخرى .
وعلى أيّ حال ، فهذه الاُطروحة في غنى عن ذلك ؛ لوضوح إمكان اختفاء المهدي (عليه السّلام) بشخصه في أيّ مكان ، ولا ينحصر ذلك في السرداب بطبيعة الحال . وسيأتي في الفصول الآتية ما يصلح أنْ يكون تكملة للتصوّر المترابط للمهدي (عليه السّلام) بحسب هذه الاُطروحة .
الاُطروحة الثانية : اُطروحة خفاء العنوان :
ونريد به أنّ الناس يرون الإمام المهدي (عليه السّلام) بشخصه بدون أنْ يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقته .
فإنّنا سبق أنْ عرفنا من تاريخ الغيبة الصغرى أنّ المهدي (عليه السّلام) ربّاه أبوه محتجباً عن الناس ، إلاّ القليل من الخاصّة الذين أراد أنْ يطلعهم على وجوده ويثبت لهم إمامته بعده ، ثمّ ازداد المهدي (عليه السّلام) احتجاباً بعد وفاة أبيه ، وأصبح لا يكاد يتّصل بالناس إلاّ عن طريق سفرائه الأربعة ، غير عدد من الخاصّة المأمونين الذين كانوا باحثين عن الخَلَف بعد الإمام العسكري (عليه السّلام) ؛ كعليّ بن مهزيار الأهوازي وغيره ، وكان المهدي (عليه السّلام) يؤكّد عليهم في كلّ مرّة الأمر بالكتمان والحذر .
وكلّما تقدّمتْ السنين في الغيبة الصغرى ، وتقدمت الأجيال ، قلّ الذين عاصروا الإمام العسكري (عليه السّلام) وشاهدوا ابنه المهدي (عليه السّلام) ، حتى انقرضوا ، ووُجدت أجيال جديدة لا تعلم مِن اُسلوب اتّصالها بالإمام (عليه السّلام) إلاّ الاتّصال بسفيره على أفضل التقادير . وكان هذا الجيل ـ بشكل عام ـ جاهلاً بالكلية بسحنة وشكل إمامه المهدي (عليه السّلام) ، بحيث لو واجهوه لَمَا عرفوه البتّة إلاّ بإقامته دلالة قطعية على شخصيّته .
ومِن هنا تيسر له ـ كما علّمنا في ذلك التاريخ ـ فرصة السفر إلى مختلف أنحاء البلاد كمكّة ومصر ، من دون أنْ يكون ملفتاً لنظر أحد .
وهذا ما نعنيه من خفاء العنوان ، فإنّ أيّ شخص يراه يكون غافلاً بالمرّة عن كونه هو الإمام المهدي (عليه السّلام) ، وإنّما يرى فيه شخصاً عادياً كسائر الناس لا يُلْفِتْ النظر على الإطلاق .
ويمكن للمهدي (عليه السّلام) أنْ يعيش في أيّ مكان يختاره , وفي أي بلد يفضّله سنين متطاولة ، من دون أنْ يُلْفِتْ إلى حقيقته نظر أحد ، وتكون حياته في تلك الفترة كحياة أيّ شخص آخر يكتسب عيشه من بعض الأعمال الحرّة كالتجارة أو الزراعة أو غيرها ، ويبقى على حاله هذه في مدينة واحدة أو عدّة مدن ، حتّى يأذن الله تعالى له بالفرج .
ويمكن الاستدلال على هذه الاُطروحة ، انطلاقاً من زاويتين :
* الزاوية الأولى :
الأخبار الواردة بهذا الصدد منها : ما أخرجه الشيخ الطوسي في الغيبة(6) عن السفير الثاني الشيخ محمّد عن عثمان العمري أنّه قال : والله , إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة ، يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه .
والمقصود بصاحب هذا الأمر : الإمام المهدي (عليه السّلام) ، والمراد بالموسم موسم الحج . والرواية واضحة الدلالة على عدم اختفاء الشخص , ومقترنة بالقسم بالله تعالى تأكيداً , وصادرة من سفير المهدي (عليه السّلام) ، وهو أكثر الناس اطّلاعاً على حاله .
ومنها : ما ورد عن السفير من قوله حول السؤال عن اسم الإمام المهدي (عليه السّلام) : وإذا وقع الاسم وقع الطلب(7) .
فإنّه ليس في طلب الحكّام للمهدي (عليه السّلام) ومطاردتهم له أي خطر , ولا أي تأثير لو كانت الاُطروحة الأولى صادقة وكان جسم المهدي (عليه السّلام) مختفياً ؛ إذ يستحيل عليهم الوصول إليه . وإنّما يبدأ الخطر والنهي عن الاسم تجنّباً للمطاردة طبقاً للاُطروحة الثانية ؛ فإنّه ما دام عنوان المهدي (عليه السّلام) واسمه مجهولين يكون في مأمن عن المطاردة ، وأمّا إذا ( وقع الاسم ) وعرف العنوان لا يكون هذا الأمن متحقّقاً ، ويكون احتمال المطاردة قويّاً .
ومنها : ما ورد من التوقيع الذي خرج من المهدي (عليه السّلام) إلى سفيره محمّد بن عثمان (رضي الله عنه) يقول فيه : فإنّهم إنْ وقفوا على الاسم أذاعوه ، وإنْ وقفوا على المكان دلّوا عليه(8) فإنّه لو صدقت الاُطروحة الأولى لم يكن رؤية المهدي (عليه السّلام) في أيّ مكان على الإطلاق ، ولم يكن في الدلالة على أيّ مكان خطر أصلاً , وإنّما يكون الخطر موجوداً طبقاً للاُطروحة الثانية ومنها : ما قاله أبو سهل النوبختي حين سُئل , فقيل له : كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك ؟ فقال : هم أعلم وما اختاروه ، ولكن أنا رجل ألقى الخصوم واُناظرهم ، ولو علمتُ بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتْني الحجّة على مكانه لعلّي كنتُ أدلّ على مكانه . وأبو القاسم فلو كانت الحجّة تحت ذيله وقُرّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه(9) .
ومن الواضح أنّه لا معنى لكل هذه الاحتياطات والتحفّظات مع صحّة الاُطروحة الأولى , أي اختفاء شخص المهدي (عليه السّلام) ، وإنّما لا بدّ من ذلك مع صِحّة الاُطروحة الثانية ، فإنّ الدلالة على المكان مستلزم لانكشاف العنوان ، والقائل لهذا الكلام هو أبو سهل النوبختي الذي كان من جلالة القدر والوثاقة بحيث كان من المحتمل أنْ يكون هو السفير عن الإمام (عليه السّلام) ... ومن هنا سئل في هذه الرواية عن غضّ النظر عنه وإبداله بالشيخ ابن روح .
فهذه جملة من الأخبار الدالّة على صِحّة الاُطروحة الثانية ، وبطلان الأولى . إلى أخبار غيرها لا نطيل الحديث بسردها .
* الزاوية الثانية :
قانون المعجزات الذي يقول : إنّ المعجزة إنّما تحدث عند توقّف إقامة الحق عليها ، وأمّا مع عدم هذا التوقّف ، وإمكان إنجاز الأمر بدون المعجزة ، فإنّه لا تحدث بحال كما برهنا عليه في محلّه(10) .
ولا شكّ أنّ حفظ الإمام المهدي (عليه السّلام) وبقاءه ممّا يتوقّف عليه إقامة الحق بعد ظهوره ، فلو توقّف حفظه على إقامة المعجزة بإخفائه شخصياً لزم ذلك ، إلاّ أنّ هذا غير لازم ؛ لِمَا عرفناه من كفاية خفاء العنوان في إنجاز الغرض المطلوب وهو حفظه من كيد الأعداء . وسنذكر فيما يلي بعض الإيضاحات لذلك ، ومن هنا تكون معجزة اختفائه بلا موضوع ، ويتعيّن الأخذ بالاُطروحة الثانية .
ومن أجل تنظيم هذه الاُطروحة فكريّاً وبرهانيّاً لا بدّ من الجواب عليها :
* السؤال الأوّل :
إذا كان المهدي (عليه السّلام) ظاهراً بشخصه للناس ، وهم لا يعرفونه ، فكيف لا يلتفتون إليه طوال السنين ، وهم يرونه باقياً لا يموت على حيث يموت غيره من الناس .
وفي هذا السؤال غفلة عن الاُسلوب الذي يمكن للمهدي (عليه السّلام) أنْ يتّخذه ؛ تلافياً لهذا المحذور , فإنّه لو عاش في مدينة واحدة حقبة طويلة من الزمن لانكشف أمره لا محالة ، ولكنّه ـ بطبيعة الحال ـ لا يعمل ذلك ، بل يقضي في كلّ مدينة أو منطقة عدداً من السنين تكون كافية لبقاء غفلة الناس عن حقيقته .
فلو كان يقضي في كلّ مدينة من العالم الإسلامي خمسين عاماً ، لكان الآن قد أكمل سكنى اثنتين وعشرين مدينة . وتوجد في العالم الإسلامي أضعاف ذلك من المدن التي يمكن للمهدي (عليه السّلام) أنْ يسكنها تباعاً ، كما يمكن أنْ يعود إلى نفس المدينة التي سكن بها بعد مضي جيلين أو أكثر ، وانقراض مَن كان يعرف شخصه من الناس .
ومِن البسيط جدّاً أَلاّ ينتبه الناس إلى عمره خلال السنوات التي يقضيها في بلدتهم ؛ فإنّ هناك نوعاً من الناس نصادف منهم العدد غير القليل ، تكون سحنتهم ثابتة التقاطيع على مَرّ السنين ، فلو فرضنا ـ في الاُطروحة ـ كون المهدي (عليه السّلام) على هذا الغرار ، لم يكن ليثير العجب بين الناس بعد أنْ يكونوا قد شاهدوا عدداً غير قليل من هذا القبيل .
ثمّ حين يمرّ الزمان الطويل الذي يكون وجود المهدي (عليه السّلام) فيه ملفتاً للنظر ومثيراً للانتباه ، يكون المهدي (عليه السّلام) قد غادر هذه المدينة بطريق اعتيادي جدّاً إلى مدينة أخرى ؛ ليسكن فيها حقبة من السنين , وهكذا .
* السؤال الثاني :
أنّه كيف تتمّ المقابلة مع الإمام (عليه السّلام) على الشكل الوارد في أخبار المقابلة ؟ وكيف يختفي الإمام بعدها ؟
أمّا حدوث المقابلة ففي غاية البساطة ، فإنّه (عليه السّلام) إذ يرى المصلحة في مقابلة شخص فإنّه يكشف له عن حقيقته ، إمّا بالصراحة ، أو بالدلائل التي تدلّ عليه في النتيجة ؛ لكي يعرف الفرد أنّ الذي رآه هو المهدي (عليه السّلام) ولو بعد حين .
والمهدي (عليه السّلام) يحتاج في إثبات حقيقته لأيّ فرد إلى دليل ؛ لجهل الناس جهلاً مطلقاً بذلك ، وهو يعبّر عن معجزة يقيمها الإمام (عليه السّلام) في سبيل ذلك ، وهذه المعجزة تقوم في طريق إثبات الحجّة على المكلّفين ، فتكون ممكنة وصحيحة ، وهي طريق منحصر لإثبات ذلك كما هو واضح ؛ إذ بدونها يحتمل أنْ لا يكون هو المهدي (عليه السّلام) على أيّ حال .
والغالب في أخبار المشاهدة أنّ الفرد لا ينتبه إلى حقيقة المهدي (عليه السّلام) إلاّ بعد فراقه ، ومضي شيء من الزمان ؛ لأنّ الفرد لا يستطيع أنْ يشخّص أنّ ما قام به المهدي (عليه السّلام) أو ما قاله هو من المعجزات الخاصّة به إلاّ بعد مفارقته بمدّة ، وبذلك يضمن المهدي (عليه السّلام) خلاصه من الاطّلاع الصريح المباشر على حقيقته في أثناء المقابلة ، فتندفع عنه عدّة مضاعفات محتملة وأمّا أنّه كيف يختفي المهدي (عليه السّلام) بعد انتهاء المقابلة ؟ فذلك أطروحتان من الممكن له تطبيق أي منهما .
الأولى : الاختفاء الشخصي الإعجازي فيما إذا انحصر طريق التخلّص به ، فيكون مطابقاً مع قانون المعجزات .
الثانية : وهي المتحقّقة على الأغلب في ظروف اللقاء المنقولة لنا في أخبار المشاهدة ، سواء ما وقع منها في عصر الغيبة الصغرى أو ما يقع في الغيبة الكبرى ، وهو الاختفاء بطريق طبيعي ؛ لعدم انحصار التخلّص بالمعجزة ، بل كان المهدي (عليه السّلام) يزجي هذا الأمر بنحو عادي جدّاً غير ملفت للنظر ، كما لو أصبح رفيقاً في السفر مع بعض الأشخاص ثمّ يفارقه(11) ، أو يبقى المهدي (عليه السّلام) في مكانه ويسافر عنه الشخص الآخر(12) ، أو أنّ المهدي يوصِل شخصاً إلى مأمنه من متاهة وقع فيها ثمّ يرجع ، ولا يلتفت ذلك الشخص إلى حقيقة مُنْقذِهِ إلاّ بعد ذهابه(13) ، ويكون لغفلته هذه الأثر الكبير في سهولة وسرعة اختفاء المهدي (عليه السّلام) عنه ، ومع إمكان الاختفاء الطبيعي يكون الاختفاء الإعجازي بلا موضوع .
ويستطيع المهدي (عليه السّلام) أنْ يخطّط بمقابلته نحواً من الاُسلوب ، ينتج غفلة الرائي عن كونه هو المهدي (عليه السّلام) في أثناء المقابلة ، وإنّما يتوصّل إلى الالتفات إلى ذلك بعدها ، ويقيم دلائله بحيث لا تكون مُلْفِته للنظر أثناء وقوعها ، وإنّما يحتاج الالتفاف إليها إلى شيء من الحساب والتفكير لا يتوفّر ـ عادة ـ إلاّ بعد اختفاء المهدي (عليه السّلام) ، وهذا هو الديدن الذي يطبّقه الإمام (عليه السّلام) في أغلب المقابلات .
وهذا التخطيط المسبق الذي يقوم به المهدي (عليه السّلام) يُغْنِيْه عن التفكير في طريقة الاختفاء عند المقابلة ، وإنْ كان لا يُعْدَم ـ بغضّ النظر عن الاختفاء الإعجازي ـ مثل هذه الطريقة . ولئنْ كنّا نرى في كلّ زمان أشخاصاً عارفين بطرق الاختفاء السريع لمختلف الأغراض ؛ كالبحث عن المجرمين , أو الهرب من العقاب ، أو عن مقابلة الدائن ، أو غير ذلك ... فكيف بالإمام المهدي (عليه السّلام) صاحب القابليّات غير المحدودة الذي يستطيع بها أنْ يحكم العالم كلّه ، والعدّ لذلك مِن الله تعالى إعداداً خاصّاً .
* السؤال الثالث :
إنّ مَن يرى المهدي (عليه السّلام) فسوف يعرفه بشخصه ، وسيعرفه كلّما رآه ، وهو ما يؤدّي بالمهدي (عليه السّلام) تدريجاً إلى انكشاف أمره , وانتقاء غيبته المتمثّلة بخفاء عنوانه , والجهل بحقيقته ؛ إذ من المحتمل للرائي أنْ يُخْبِر الآخرين بذلك ، فيعرفون حقيقته وينكشف أمره .
ويمكن الانطلاق إلى الجواب على مستويات ثلاثة :
* المستوى الأول : إنّ الفرد الذي يحظى بمقابلة المهدي (عليه السّلام) لنْ يكون إلاّ مِن خاصّة المؤمنين المتكاملين في الإخلاص ـ على الأغلب ـ , ومثل هذا الفرد يكون مأموناً على إمامه (عليه السّلام) من النقل إلى الآخرين ؛ فإنّ الناس لا يعلمون من هذا الشخص أنّه رأى المهدي وعرفه ، وله الحرية في أنْ يقول ذلك أو أنْ يستره ، أو أنْ يبدي بعض الحادث ويخفي البعض الآخر ، بالمقدار الذي يحقّق به مصلحة الغيبة والستر على الإمام الغائب (عليه السّلام) .
* المستوى الثاني : إذا لم يكن الرائي مأموناً ـ فيما إذا اقتضتْ المصلحة مقابلته ـ فقد يكون بعيد المزار جدّاً ، ويكون المهدي (عليه السّلام) عالماً سلفاً بأنّه لنْ يصادفه في مدينته أو في الأماكن التي يطرقها طيلة حياته ، ومعه فيكون الخطر المشار إليه في السؤال غير ذي موضوع .
* المستوى الثالث : إذا كان الرائي قريباً في مكانه من المنطقة التي يسكنها المهدي (عليه السّلام) , ولم يكن مأموناً ، فإنّه يحتاج المهدي إلى تخطيط معين لتفادي الخطر المذكور .
ولعلّ أوضح تخطيط وأقربه إلى الأذهان هو أنْ يغيّر زِيّه الذي يعيش به عادة بين الناس ؛ ليقابل الفرد المطلوب بزيٍّ جديد . ومن هنا نرى الإمام المهدي (عليه السّلام) ـ على ما دلّتْ عليه الروايات ـ يقابل الناس بأزياء مختلفة ؛ ففي عدد من المرّات يكون مرتدياً عقالاً وراكباً جملاً أو فرساً ، وفي مرّة على شكل فلاّح يحمل المنجل ، وأخرى على شكل رجل من رجال الدين العلويّين(14) ، وهذا أحسن ضمان لعدم التفات الناس إلى شخصيّته المتمثّلة بزِيّهِ العادي .
على أنّ المقابلات تقترن في جملة من الأحيان بأشكال من الضرورة والحرج عند الفرد ، وهي الضرورة التي يريد المهدي (عليه السّلام) إزالتها على ما سنسمع ، ومثل هذا الفرد يصعب عليه ـ وهو في حالته تلك ـ تمييز سحنة الإمام (عليه السّلام) بشكل يستطيع أنْ يشخّصه بعد ذلك ، خاصّة وهو في زِيّه التنكّري .
وهناك أساليب أخرى يمكن اتّخاذها في هذا الصدد ، لا ينبغي أنْ نطيل بها الحديث .
ولو فرض أنّه احتاج الأمر وانحصر حفظ الإمام (عليه السّلام) بالإعجاز بطريق الاختفاء الشخصي لو قابله الفرد الرائي مرّة ثانية ، لكان ذلك ضروريّاً ومتعيّناً ، أو تكون المعجزة على شكل نسيان الرائي لسحنة الإمام (عليه السّلام) بعد المقابلة .
فهذه ثلاثة أسئلة مع أجوبتها تضع الملامح الرئيسة على اُطروحة خفاء العنوان ، وسيأتي لها العديد من الإيضاحات والتطبيقات في الفصول الآتية .
وعرفنا أيضاً كيف تتبرهن هذه الاُطروحة في مقابل الأطورحة الأولى ، من حيث إنّ باستطاعة الإمام المهدي (عليه السّلام) أنْ يحتجب عن الناس بشكل طبيعي لا إعجازَ فيه ما لم يتوقّف احتجابه على الإعجاز ، طبقاً لقانون المعجزات ، وإذا تمّ ذلك يكون الالتزام باختفائه الشخصي الدائم ، بالمعجزة ، منفياً بهذا القانون ، وينبغي تأويل أو نفي كلّ خبر دالّ عليه .
كما أنّ هذه الاُطروحة الثانية هي التي تنسجم مع التصوّرات العامّة التي اتّخذناها في فهم الاُسلوب العام لحياة الإمام المهدي (عليه السّلام) في غيبته الصغرى .
ونودّ أنْ نشير في خاتمة هذه الاُطروحة إلى نقاط ثلاث :
* النقطة الأولى : أنّنا إذ نعرف أنّ المهدي (عليه السّلام) متى استطاع الاحتجاب بشكل طبيعي ، فإنّ المعجزة لا تساهم في احتجابه ... لا نستطيع ـ على البعد ـ مقتضيات الظروف والأحوال التي يمرّ بها المهدي (عليه السّلام) في كل مقابلة ، وهل كان بإمكانه أنْ يختفي بشكل طبيعي ، أو يتعيّن عليه الاختفاء الإعجازي .
فمثلاً : إنّ لاختفائه بعد مقابلته لجعفر الكذّاب مرّتين ، احتمالين ؛ هما اختفاؤه الشخصي أو اختفاؤه الطبيعي ، بحسب الظروف التي كان يعيشها المهدي (عليه السّلام) يومئذ . وأمّا بدء هذه المقابلة فلا حاجة إلى افتراض كونه إعجازياً ، بأيّ حال ، كما ذهب إليه رونلدسن(15) ، بل يمكن أنْ يكون طبيعياً اعتيادياً .
وعلى أيّ حال ، فبعض الروايات يمكنها أنْ تعطينا الظرف الذي تنتهي به المقابلة ؛ حيث يتّضح من بعضها إمكان الاحتجاب الطبيعي كما سبق أنْ مثّلنا ، بينما يتّضح من بعضها تعيّن الاحتجاب الإعجازي أحياناً كما ستسمع في مستقبل هذا التاريخ .
* النقطة الثانية : في الإلماع إلى الأنحاء المتصوّر لِمَا يحصل بالمعجزة من أثر يوجب اختفاء الجسم على الناظر ، بالرغم من اقتضاء القوانين الكونيّة لحصول الرؤية .
فنقول : إنّ المعجزة أمّا أنْ تتصرّف في الرائي أو في المرئي ، فتصرّفها في الرائي هو جَعْله بنحو يعجز عن إدراك الواقع الذي أمامه ، فيرى المكان خالياً عن الإمام المهدي (عليه السّلام) مع أنّه موجود فيه بالفعل ، فلو تعيّن بحسب المصلحة الملزمة والغرض الإلهي أنْ يراه شخص دون شخص ، كان نظر مَن يراه اعتيادياً ، ونظر مَن لا يراه محجوباً بالمعجزة ، وكذلك أيضاً التصرّف في الحواس الأخرى كالسمع واللمس وغيرها ، وقد تحتجب بعض حواس الفرد دون بعض ، فيسمع صوت المهدي (عليه السّلام) من دون أنْ يراه(16) .
وفرق الأطروحتين الرئيستين بالنسبة إلى الإعجاز الإلهي هو : أنّ الاُطروحة الأولى ترى أنّ هذا الإعجاز هو الأمر الاعتيادي الدائم والثابت لكلّ الناس بالنسبة إلى حياة المهدي (عليه السّلام) حال غيبته الكبرى ، وإنّما تحتاج مقابلته إلى استثناء عن هذا الدوام ، على حين ترى الاُطروحة الثانية : أنّ الأمر الاعتيادي الدائم هو انكشاف جسم المهدي (عليه السّلام) للناس وإمكان معاشرته معهم ، ويحتاج اختفاء شخصه إلى استثناء لا يحدث إلاّ عند توقّف حفظ الإمام المهدي (عليه السّلام) عليه .
وأمّا تصرّف المعجزة في المرئي أي الواقع الموضوعي القابل للرؤية ، فأوضح طريق لذلك هو أنْ تحول المعجزة دون وصول الصورة النوريّة الصادرة عن جسم المهدي (عليه السّلام) أو ذبذباته الصوتية ، وغير ذلك ممّا تتقبّله الحواس الخمس ... تحول دون وصولها إلى الرائي أو السامع ، ومعه يكون الفرد عاجزاً أيضاً عن الإحساس بالواقع الموضوعي الذي أمامه .
وهناك أكثر من نحو واحد متصوّر للمعجزة في محلّ الكلام ، وهي تحتاج إلى بحث فلسفي وفيزياوي مطوّل ، فيكون الأحجى أنْ نَضرب عنه صفحاً ؛ تحاشياً للتطويل .
* النقطة الثالثة : أنّه ساعد الإمامَ المهدي (عليه السّلام) في غيبته عواملُ نفسيّة أربعة متحقّقة لدى الناس على اختلاف نِحَلهم واتجاهاتهم ، ممّا جعل عليهم من الممتنع التصدّي للبحث عنه لأجل الاستفادة منه أو التنكيل به .
العامل الأوّل : الجهل بشكله وهيئة جسمه جهلاً تامّاً . وهو عامل مشترك بين أعدائه ومحبّيه .
العامل الثاني : إنكاره من قِبل غير قواعده الشعبية بما فيهم سائر الحكّام الظالمين ، الذي يمثّل المهدي رمز الثورة عليهم , وإزالة نظمهم من الوجود ، فهم في إنكارهم له مرتاحين عن مطاردته ، وهو مرتاح من مطاردتهم .
العامل الثالث : ارتكاز صحّة الاُطروحة الأولى عند عدد من قواعده الشعبية ؛ أخذاً بظواهر الأخبار التي سمعناها ؛ إذ مع صحّتها لا يكون هناك سبيل إلى معرفته ، بل يستحيل الإحساس بوجوده إلاّ عن طريق المعجزة ، وهي لا تتحقّق إلاّ للأوحدي من الناس .
العامل الرابع : الإيمان بعناية الله تعالى له وحفظه ليومه الموعود ، فمتى تعلَّقت المصلحة بالمقابلة مع المهدي (عليه السّلام) كان هو الذي يريدها ، ومتى لم تتعلّق بها المصلحة فالأصلح للإسلام والمسلمين ألاّ تتمّ المقابلة وإنْ تحرَّق الفرد المؤمن إليها شوقاً ؛ ومن هنا يكون الفرد الاعتيادي في حالة يأس من مقابلته والتعرّف إليه .
ــــــــــــــــــ
* اقتباس وتنسيق قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنَين (عليهما السّلام) للتراث والفكر الإسلامي ، من كتاب : تاريخ الغيبة الكبرى ، تأليف : السيّد محمّد محمّد صادق الصدر ، يتكفّل فهماً إسلاميّاً جديداً لغيبة الإمام المهدي (عليه السّلام) ، وشرائط ظهوره وعلاماته ، وتكليف الفرد المسلم خلال ذلك ، الناشر : دار الزهراء (س) ، الطبعة الأُولى ، 1428 ﻫ ـ 2007 م ، من ص 31 ـ ص 43 .
(1) انظر : الأخبار الثلاثة في المصدر المخطوط .
(2) انظر : المعجزة في المفهوم الإسلامي ، مخطوط للمؤلّف .
(3) انظر : ص 314 .
(4) انظر : النجم الثاقب : ص 351 .
(5) المصدر : ص 563 .
(6) انظر : المصدر : ص 221 .
(7) نفس المصدر : ص 219 .
(8) المصدر : ص 222 .
(9) المصدر : ص 240 .
(10) انظر : المعجزة في المفهوم الإسلامي ، المخطوط .
(11) انظر : الغيبة للشيخ الطوسي : ص 181 .
(12) انظر : النجم الثاقب : ص 306 .
(13) انظر : المصدر : ص 341 ، وغيرها .
(14) راجع ذلك في : النجم الثاقب ، في عدد من مواضيع الكتاب .
(15) انظر : عقيدة الشيعة : ص 237 .
(16) البحار : ج 3 ، ص 146 .
إضافة تعليق جديد