في رحاب النبي الأكرم (ص) : مرحلة الصبا
مرحلة الصبا
لقد ربّى المولى سبحانه وتعالى نبيّه الأكرم (ص) وأدّبه روحيّاً وأخلاقيّاً بما يجعله قادراً على حمل تلك الأمانة الكبرى. وما علينا سوى إلقاء نظرة عامة على حياة النبي الأكرم (ص) في طفولته؛ لقد رحل والده عن الدنيا قبل ميلاده طبقاً لإحدى الروايات، أو بعد ميلاده ببضعة أشهر طبقاً لرواية أخرى، فلم يره. وكان من تقاليد العوائل النبيلة والأصيلة في الحجاز آنذاك أن تتخيّر لأبنائها من السيدات العفيفات والأصيلات والشريفات من ترضعه وتقوم بتربيته في أوساط القبائل العربية في البادية. فكان هذا الوليد العزيز من نصيب سيدة أصيلة وشريفة من قبيلة بني سعد تسمى “حليمة السعدية”، فأخذته حيث تعيش قبيلتها، وظلت نحو ستة أعوام ترضعه وتربّيه، حتى نشأ النبي (ص) وشبّ عن الطوق في البادية. وكانت حليمة تأخذه أحياناً إلى أمّه ـ السيدة آمنة ـ لتراه، ثم ما تلبث أن تعود به إلى حيث كانت تعيش. وبعد ستة أعوام، ولما صار هذا الصبي في حالة ممتازة من النمو الجسمي والروحي، وبات قوي البنية، جميلاً، ونشيطاً، ونبيهاً، وبرزت فيه صفات الصلابة والصبر وحسن الخلق والسلوك وسعة الأفق، والتي هي من لوازم الحياة في تلك الظروف، فإن السيدة حليمة أعادته إلى أمّه وقبيلته. وعندئذ أخذته أمّه إلى يثرب لزيارة قبر أبيه عبدالله الذي مات ودفن هناك. حتى إن النبي (ص) لمّا جاء إلى المدينة المنورة بعد ذلك قال لدى مروره بذلك المكان: هاهنا قبر والدي، ومازلت أتذكر أنني كنت قد قدمت مع أمي إلى هنا، غير أن أمّه توفيت أيضاً في طريق عودتهما من يثرب في مكان يدعى “الأبواء” فغدا هذا الصبي يتيم الأب والأم. وبهذا أخذت روح الصبي في النضج والنمو يوماً بعد آخر وهو الذي سيصبح عليه أن يربّى البشرية على صفاته وخصاله الأخلاقية ويأخذ بيدها نحو التقدم في غد الأيام. وفي تلك الأثناء عادت به أم أيمن إلى مكة وسلّمته إلى جده عبد المطلب الذي ظل يسبغ عليه من عطفه ورعايته حتى إنه لَيقول في شعر له ما معناه أنه له بمنزلة الأم من الولد. ولقد كان هذا الشيخ العجوز البالغ من العمر نحو مائة عام ـ والذي كان رئيساً لقريش مع ما له من شرف وعزة ـ يحنو على هذا الصبي بكل ما لديه من عطف ومحبة فشبّ سويّاً دون أن يشعر بمرارة اليتم وافتقاد حب الوالدين.
والمدهش في الأمر أن هذا الصبي شب يتيماً وتحمل متاعب فقدان الوالدين حتى تتكامل شخصيته وتنمو كفاءاته دون الشعور بأدنى قدر من النقص الذي يمكن أن يصاب به بعض الأبناء في مثل هذه الأحوال.
لقد كان عبد المطلب شديد الحب له والتقدير ممّا أثار دهشة الجميع. وتروي كتب التاريخ والحديث أن عبد المطلب كان يُبسط له فراش وتوضع له وسادة بجوار الكعبة فيجتمع حوله أبناء وشباب بني هاشم في تبجيل واحترام. وعندما كان عبد المطلب يغادر المكان أو يدخل إلى الكعبة فإن ذلك الصبي كان يجلس على الفراش متّّكئاً على الوسادة. وما إن يعود عبد المطلب حتى يطلب شباب بني هاشم من الصبي فسح المجال للأب الشيخ، ولكن عبد المطلب كان يقول لهم: دعوه، فإن هذا مكانه الذي ينبغي له الجلوس فيه، فكان يجلس بجواره دون أن ينحّيه عن مجلسه وهو يوليه المزيد من العزة والشرف والتبجيل. ولكن عبد المطلب توفي هو الآخر بينما كان الصبي مازال في الثامنة من عمره. وجاء في الروايات أن عبد المطلب أخذ العهد من ابنه أبي طالب ـ وهو من أعز أبنائه وأرفعهم درجة لديه ـ وأوصاه خيراً بالصبي قبيل وفاته، طالباً منه أن يعامله كما كان يعامله ويحميه كما كان يحميه، فقبل أبوطالب ذلك وعاد به إلى منزله وهو يحنو عليه كفلذة كبده ويرعاه بكل وجوده. وظل أبو طالب وزوجته ـ فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين ـ يوليان هذه الشخصية الرفيعة الكثير من الحماية والعون كما والديه طوال نحو أربعين عاماً. وفي مثل هذه الظروف أمضى النبي الأكرم (ص) فترة صباه وشبابه.
إن كل الخصال الأخلاقية المتعالية والشخصية الإنسانية الكريمة والصبر والتحمل الشديد والاندكاك بالآلام والشدائد التي يمكن أن تلمّ بالإنسان في طفولته مهدت لتشكيل الشخصية السوية العظيمة والعميقة في هذا الطفل؛ لقد اختار النبي (ص) أن يرعى غنم أبي طالب في عهد صباه، فكان هذا من العناصر التي كوّنت شخصيته. كما اختار هو بنفسه في تلك السن أن يرافق عمّه أبا طالب في تجارته خارج مكة، وقد تعددت أسفاره في التجارة حتى بلغ سن الشباب والزواج بالسيدة خديجة والوصول إلى سنّ الأربعين عندما نزل عليه الوحي.
إضافة تعليق جديد