نعم القرين الرضى. والعلم وراثة كريمة

نعم القرين الرضى. والعلم وراثة كريمة. والآداب حلل‏مجددة. والفكر مرآة صافية.

(نعم القرين الرضى) عليك أن تسعى جهدك للرزق، لا تتكل على القدر، إذا سعيت ونلت من الحلال دون ما أملت فارض بما تيسر ولا ترفضه وتتبرم‏به. وقديما قيل لا يترك الميسور بالمعسور، كيف والحرمان أقل منه، بعض‏الشر أهون من بعض؟خذ ما تيسر، انتظر الفرصة الى ما هو أفضل، لاتتعجل الشي‏ء قبل أوانه، فإن الأمور مرهونة بأوقاتها.. ولا أظن مخلوقا حقق‏كل ما ينشد من سعادة إلا من روض نفسه على التسليم والرضا بما لا سبيل الى‏سواه، لا يقول لشي‏ء لم يكنليته كان، لما كانليته لم يكن.

والرضا بمنطق الواقع هو الذي عناه الإمام، أثنى عليه بقوله "نعم القرين‏الرض" لأنه يحرر صاحبه من الحيرة والقلق، التبرم والسخط بلا جدوى.

وبالاختصار ان تعاسة الإنسان قد تأتي من داخله لا من خارجه، من صنع يده‏لا من صنع القدر، لأنه يرفض الانسجام مع ظروفه الخاصة التي تمسه في الصميم، تؤثر عليه وعلى شؤونه، لا يجني من معاندتها إلا الآهات والحسرات.. ورأيت‏من الشباب الجامعي من يأنف ويحتقر بعض الأعمال، لأنهاـ بزعمه ـ عيب يمس‏بكرامته، يطمح الى وظائف الأغوات وأبناء الذوات، فيبحث ويلهث وراء كل متزعم حتى اذا يئس عاد الى ما استنكف عنه من قبل، طلبه بلهفة.. ولكن بعد فوات الفرصة التي لا سبيل الى مردها..فقعد كسيحا خاسر، لأنه‏أراد القفز أكثر مما تستطيع عضلاته.

وهكذا قضت حكمة الخالق جل وعلا أن يعاقب بالحرمان من استنكف عن‏رزقه المكتوب.

وأيضا رأيت كثيرا من الشباب الجامعي يستسلمون لمنطق الواقع، لا يأنفون‏من وظيفة كاتب بسيط، بعضهم من حملة الدكتوراه، مع الصبر والأيام صار أحدهم مديرا عام، آخر استاذا جامعي، رئيسا لمصلحة، قاضيا مرموقا.. ولا سرـ فيما أعتقد ـ إلا الرضا والصبر الذي هو من مظاهر الحمد والشكر، فأنجز لهم سبحانه قوله ووعده لئن شكرتم لأزيدنكم ـ7 ابراهيم.حمدا لله وشكرا.

(والعلم وراثة كريمة) قال ابن أبي الحديد في شرحه "كل عالم يأخذ العلم من استاذه فكأنه ورث العلم عنه" وتبعه ميثم في هذا التفسير وقال "العلم‏وراثة عن العلماء" وقال شارح ثالث "أخطأ الاثنان، الحق في التفسير ان‏العلم يؤخذ بلا عوض تماما كالإرث".. ولو تنبه هؤلاء الشارحون لقول الإمام‏في الحكمة رقم 147 لأراحوا واستراحوا من هذا التكلف والتعسف. قال الإمام‏في هذه الحكمة من جملة ما قال "العلم يكسب الانسان جميل الأحدوثة بعد وفاته" وهذا بالذات هو مراد الإمام بقوله "و العلم وراثة كريمة" فإن كلام‏الإمام يفسر بعضه بعض، لأن مصدره واحد.. وكلنا يعلم ان الناس يذكرون ‏الانسان بعد وفاته بأفعاله وصفاته، ان العلم من الصفات الجلى.

(والآداب حلل مجددة).الحلل المجددة كناية عن البهجة والزينة الدائمة، المراد بالآداب هنا الصفات الحميدة عند العقل والعقلاء، كالبلاغة والذكاء وحسن‏السلوك، ما إلى ذاك من الفضائل الشخصية والاجتماعية..نقول هذا مع العلم‏ان تحديد المفاهيم ومعاني الألفاظ من أدق الأشياء وأصعبها.. ولكن هذا ما فهمناه‏من سياق الكلام، منطق الواقع، فإن كان هذا ما أراده الإمام من كلامه‏هنا فذاك، إلا فإن الإمام لا يرفض المعنى الذي فهمناه لأنه حق في نفسه ومن‏حيث هو.

(والفكر مرآة صافية) المراد بالفكر هنا القوة المدركة العاقلة التي اذا أعملها الإنسان بعيدا عن الهوى والمحاكاة دلت على الحق والصواب، كنى الإمام عن‏هذه الدلالة الصادقة بالمرآة الصافية التي تعكس الشي‏ء كما هو في واقعه. وأخذنا هذا التفسير من قول الإمام في الرسالة 30 "من تفكر أبصر" وقوله في‏الحكمة 113 "لا علم كالتفكير" أي ان العلم بلا تفكير أكثر خطورة من التفكير الذي لا يدعمه علم، كما قال كونفوشيوس.

إضافة تعليق جديد