البخل عار. والجبن منقصة.

الفقر

والفقر يخرس الفطن عن‏حجته. والمقل غريب في بلدته. والعجز آفة، الصبر شجاعة. والزهد ثروة. والورع جنة.

البخل يخطط لصاحبه منهجا يسير عليه في تفكيره وسلوكه، لا يحيد عنه‏بحال، هذا المنهج يرفض بطبعه التعاون على الخير ومصلحة الفرد والجماعة، يهدي الى القسوة وعدم الاكتراث بالناس ومشاكلهم.. ومن لا يهتم بهموم الناس‏فليس منهم ولا من الانسانية في شي‏ء. ونعطف على ذلك ما جاء في الآثار من‏أن البخيل يعيش في الدنيا عيش الفقراء، يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء، انه كالخنزير لا ينتفع به إلا بعد موته حيث تنهشه الكلاب، ان البخل يفسد الرأي، يمنع صاحبه عن رؤية الحقيقة، لأنه ينظر الى الأشياء من خلال ذاته‏الشحيحة الشاحبة.

واذا كان الإمساك رذيلة فالبذل والتضحية فضيلة في كل زمان ومكان، لكن‏إطعام الطعام قد بلغ الغاية والنهاية من التقديس عند القدامى، بخاصة العرب‏الذين اعتبروه سببا رئيسيا من أسباب السيادة والقيادة، ملأوا الدنيا في المديح‏و الثناء نظما ونثرا على صاحب الخوان، كنوا عنه بجبان الكلب وكثير الرمادوالنيران.. ووضع الجاحظ كتابا في البخلاء، أفرد الكثير من المؤلفين بابا طويلا في كتبهم لذم البخل والبخلاء، مدح الجود والأجواد.

والسر العسر والمعيشة الضنكى في ذاك العصر حيث الجائعون من كل بلد بالآلاف‏أو بالمئات..هذا، الى ان المسافرين كانوا يسيرون أياما وأشهرا على الأقدام‏أو على الحيوان، لا مطاعم وفنادق، فلا بدع اذا كان لإطعام الطعام شأنه‏و وزنه، من هنا ساوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين السلام في قوله "أفضل‏الأعمال إفشاء السلام، إطعام الطعام".

حتى الماء كان لباذله أجر وفضل على قدر عطش الظمآن ولهفته، لتعذر الوصول الى مجرى الماء ومصدره..أما الآن، قد غير العلم الأرض ومن عليها وخطا بالبشرية خطوات يسرت لها العسير، قربت لها البعيد، حققت الكثيرمن مطالبه، أما الآن فلم يعد لإطعام الطعام ونحوه ذاك الوزن والأثر الذي كان‏له من قبل.. وليس معنى هذا ان الكرم قد تحول عن طبيعته ونزل عن مرتبته، إنما يعني ان مظاهر الكرم قد تغيرت وانتقلت من التعاون الفردي الى التعاون‏الاجتماعي، من إطعام الرغيف الى بناء دار للأيتام، مستشفى للمعوزين، مدارس للمتعلمين، من سقي الظمآن الى ري الأراضي، تحويل الصحراء الجرداء الى جنات وعيون، معنى هذا أن معنى الكرم قد عم واتسع بعد أن‏كان ضيقا ومحدود، ان اسم الكريم قد تطور الى اسم المصلح والمنقذ.

(والجبن منقصة) لأن الجبان يرى المنكر فيتعامى عنه، يسمع دعوة الجهاد في سبيل الله والحق فيصد عنه، إذا شكا اليه مظلوم أدار له ظهره، إذا أراد أن يتكلم خاف من النقد.. وهكذا يسلبه الخوف ما يملك من طاقات، يعيش حبيسا بين جدران الهواجس والأوهام بلا شخصية وإرادة، لا زهرة أو ثمرة إلا الهدير والثرثرة.. وهل علمت وسمعت أن للجبان شأنا وتاريخا؟.

(والفقر يخرس الفطن عن حجته) لأن الفقر يضغط على العقل، يسد أمامه منافذ الرؤية..اللهم إلا إذا كان للفقير هدف أعلى يضحي بحياته من أجله، ينسى معه نفسه وبؤسه، كطلب العلم والحرية لوطنه، كما حدث لكثير من‏الفقراء المناضلين الأحرار. وتقدم الكلام عن الفقر مرات ويأتي أيضا.

(والمقل غريب في بلدته) ومثله قول الإمام "الغنى في الغربة وطن، الفقر في الوطن غربة" لأن من شأن الوطن أن يسهل لك العسير، يستجيب‏لحاجتك وأمنيتك، المال قاضي الحاجات، الفقر أصل الويلات، من هنا كان الفقر غربة في الوطن، الغنى وطنا في الغربة.

(والعجز آفة) وكلمة العجز تعم وتشمل وباء الفقر والمرض والجهل، هذه ‏الأوباء الثلاثة آفة الإنسانية بكامله، منها تنبع القبائح والرذائل، بخاصة الفقر فإنه السبب القريب والبعيد لأكثر الآفات والمشكلات.

(والصبر شجاعة) وجهاد. وحين يتحدث الإمام عن الصبر وفوائده فإنه‏يتحدث عن علم وتجربة، فلقد رأى وشاهد صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة على‏الأذى والتنكيل في سبيل الإسلام، ثباتهم عليه مستهينين بكل شي‏ء، هذا الصبر هو الأصل والأساس لحياة الإسلام وانتشاره، على صخرته تحطم الكفر والشرك، لو لا هذا الصبر والثبات ما كانت الهجرة ولا بدر وأحد والأحزاب، بالتالي ما كان للإسلام عين ولا أثر.

(والزهد ثروة، الورع جنة) المراد بالزهد التورع عن الحرام، بالورع‏الكف عنه، عليه يكون العطف للبيان والتفسير، المعنى أن العفيف النزيه في‏غنى عن الناس، أمان من شرهم، لأنه بعفته ونزاهته يرضى ويقنع بالميسور، يكف أذاه عن الآخرين، القناعة كنز، كف الأذى حصن وصيانة. وتقدم‏الكلام عن ذلك مرارا وتكرارا مفصلا ومجملا.انظر شرح الخطبة 189 فقرة "التقوى".

إضافة تعليق جديد