أمير المؤمنين هو المعنى الحقيقي للميزان
سماحة العلامة الراحل
آية الله الحاج السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
ألقيت في سنة 1398 هجرية قمرية
أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
بَارِئ الْخلائقِ أجمَعينَ بَاعثِ الأنْبياءِ وَ الْمرْسَلينَ وَ الصَّلاة و السّلامُ على أشرَفِ السُّفراءِ الْمُكَرَّمين أفضَلِ الأنبياءِ و المُرسَلينَ حَبيبِ إلهِ العالمينَ أَبيِ القَاسمِ محمَّد وعَلَى آله الطَّيبينَ الطَّاهرينَوَ لَعْنةُ اللهِ عَلَى أَعْدائهِمْ أَجمعينَ من الآنَ إلى قيام يومِ الدِّين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[1].
معنى الحجّة والبيّنة واضح, وكذلك معنى الكتاب؛ فالكتاب عبارة عن منظومة من الأحكام والقوانين والدساتير الأخلاقيّة, وهو تبيان للمعارف الإلهية التي تقود الناس إلى التوحيد.
ولكن ما معنى الميزان في هذه الآية المباركة؟ وما معنى إنزال الميزان؟ فالميزان هو التقييم والمعيار, فكيف كان هذا الميزان عند الأنبياء؟ وكيف كان لدى كل نبيّ ميزان؟
وسوف أمهّد بمقدمة, حتّى نصل إلى معنى الميزان وتفسير حقيقته.
الألفاظ وضعت للمعاني العامّة
هناك قاعدة قد قررّها العلماء وهي: أنّ الألفاظ وضعت لمعانٍ عامّة, فعندما يستعملون لفظاً ما, فليس ذلك الاستعمال للمعنى الخاصّ وإنما هو للمعنى العام.
ففي ذلك الزمان كان السّراج عبارة عن شريط يوضع في الزيت ويوقد رأسه ويشتعل ويتصاعد منه الدخان, وهو ما كانوا يسمونه سراجاً, ثمّ بعد أن استبدل الزيت بالنفط, وضعوا الشريط في النفط ووضعوا عليه زجاجة محدّبة, ثم سمّوه سراجاً أيضاً, من دون أن يكون هناك فرق بين المعنى الأوّل والمعنى الثاني, فتسميتهم للمعنى الأول سراجاً لا تفترق عن تسميتهم للمعنى الثاني سراجاً.
يتضّح إذاً أنّ لفظ السّراج لم يوضع لغة وعرفاً لخصوص ذلك الشيء المتكوّن من الزيت والفتيل, وإلا لانحصر معناه فيه, ولما صحّ لنا أن نسمي السّراج النفطيّ سراجاً, وللزم أن نضع له اسماً آخر, وكذلك حينما اختُرع السّراج الغازيّ, صاروا يطلقون عليه كلمة سراج, وكذلك السّراج الكهربائيّ والإلكترونيّ, فقد سمّوه سراجاً, وبدون أيّ تصرّف أو عناية أو توجيه أو قرينة, فنفس ذاك اللفظ الذي كانوا يطلقونه على السراج الزيتيّ والنفطيّ يطلقونه الآن على السراج الكهربائي.
كلّ ذلك يجعلنا نستنتج: أنّ وضعَ لفظ "السّراج" لغةً إنّما كان لمعنى عام, وهو ذاك الشيء الذي يعطي الضوء والنور ويرفع الظلام ويبدّده, وهو ما يقضي الإنسان بواسطته مآربه وحوائجه, ويتمكّن من خلاله وبواسطته أن يرى في الظلام, وهذا هو المعنى العام, فهو معنى واسع ينطبق على الجميع دون تفاوت ولا عناية, ويصدق على السراج الزيتيّ القديم أو السراج النفطيّ أو الكهربائيّ..
ونحن إنّما جئنا بلفظ "السّراج" كمثال على المسألة, وإلا فجميع الألفاظ موضوعة على هذا النحو من العموم, كلفظ الإنسان, أو لفظ الحيوان, لفظ العمارة والعمران, لفظ الظلمة, كلمة الميزان, كلمة الكتاب.. وجميع الألفاظ كذلك قد وضعت لمعانٍ عامة.
ومن هذه الألفاظ كلمة "الميزان", فالميزان يعني آلة التقدير والتقييم.
يمكن أن يُصنع الميزان من كفّتين, وتربط أطراف كلٍّ منهما بسلسلة أو حبل ثم يضعونه فوق المحور(إبرة الميزان ومحوره), فيصير كلٌّ من الكفتين والمحور في الأسفل, وهذا ما يطلقون عليه الميزان, وكذلك صنعوا القبّان الذي لم يكن فيه أكثر من كفة واحدة, وسمّوه ميزانا.
ولو توسّعنا في هذه المعاني شيئاً مّا, فسوف نلاحظ أنّ لفظ الميزان يستعمل في أمور ليست هي من الأجسام أصلاً, كما في الطاقة الكهربائيّة الموجودة في جميع المنازل والتي مصدرها تلك المحطّة الكهربائية الكبيرة للمدينة, فيضعون العدّاد ويسمّون العدّاد ميزاناً, يعني هو آلة التقييم لمقدار الاستهلاك الكهربائي, وهذا هو الميزان, الذي يحدّدون به كمّية الكهرباء, ويقيسون به قوّة التيّار الكهربائيّ, ويقيسون به كمّية الطّاقة. كذلك من خلال الميزان يعرفون قوّة الـ "إلكتروموتوري" للكهرباء, وذلك بواسطة الـ "أمبيرمتر" والـ "فولت متر" وذلك بواسطة ميزان خاص. وكذلك يقيسون حرارة الجسم بواسطة الميزان الخاص به, ومثله ميزان ضربات القلب, وميزان ضغط الدم.. فيسمّون كلّ ذلك "ميزانا" إلا أنّ كلاً بحسبه, ولكلٍّ خصوصياته التي تختلف عن الآخر, فميزان ضغط الدم يختلف عن الشيء الذي يوزن به الحطب, وميزان حرارة جسم الإنسان يختلف عن الإسطرلاب الذي يعيّنون بواسطته اتّجاه النّواحي والمناطق المرتفعة ومواقع النّجوم, إلا أنّها مع اختلافها تشتمل على حقيقة واحدة موجودة في جميعها, فالميزان هو الذي بواسطته نحدّد مقدار الأشياء وكميّتها.
ما هو ميزان الأمور المعنوية
فهل لدينا ميزان نحدّد به مقدار العقل ؟ نقيس به مقدار الشجاعة ؟ نحدّد مقدار العفّة؟ نحدّد مقدار التضحية والإيثار؟ نحدّد مقدار العدالة, نحدّد مقدار حفظ حقوق الآخرين, نحدّد مقدار درجات العبوديّة ومراتبها, نحدّد مقدار درجات معرفة الله وإدراك حقائق التوحيد.. أم أنّه لا يوجد مثل هذا الميزان؟ فهل لهذه الأمور وحدة قياسيّة أم لا؟
نعم, لها ميزان إلا أنّه ليس كالموازين الماديّة, وليس له كفتان, ولا هو كميزان حرارة الجسد, فما هو هذا الميزان إذاً؟ يجيب القرآن:
{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}
أي حينما قمنا ببعث الرسل, أرسلنا مع كلٍّ منهم كتاباً كالتوراة والانجيل.. صحف إبراهيم.. كتاب نوح.. القرآن, وكذلك أرسلنا ميزاناً, فما هو ذلك الميزان؟ ذاك الميزان عبارة عن مستوى معرفة الرسول وإدراكه وفهمه, وملكاته وخصائصه, فهو كتاب الله والعامل بالقوانين والشرائع التي أنزلها الله إلى عباده. فقد أرسل الله الكتاب, ولكن من الذي يفهم الكتاب؟ ومن الذي يدرك كنهه؟ ويعرف شأن نزوله.. تفسيره.. تأويله.. باطنه.. ظاهره.. ناسخه.. منسوخه.. المطلق.. المقيّد.. العام.. الخاص.. المجمل.. المبيّن.. من الذي يدرك كلّ ذلك؟ الذي يدرك ذلك هو الشّخص الذي أحاط بأسرار الكتاب, بحيث صار وجوده ميزانا ومقياساً من الناحية التشريعيّة, فنفس وجود هذا الشخص ميزانٌ لبيان تلك الأحكام التي وردت في الكتاب الإلهي المُرسل إلى المجتمع البشري. هل اتضح معنى الآية؟
أمير المؤمنين هو المعنى الحقيقي للميزان
لقد ورد في القرآن الكريم:
{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ{7} أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ{8} وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ{9} [2]
المعنى الظاهريّ للآية واضح وجليّ, إلا أنّها تشتمل على معنى باطنيّ, وهو ما يمثّل تفسير هذه الآية وتأويلها. فقد وردت روايات عديدة في تفسير القرآن كتفسير الكافي, والعديد من التفاسير الأخرى, وكذلك في كتاب معاني الأخبار وفي مقدمات تفسير الصّافي حيث تعرّض لذكرها المرحوم الفيض, هذه الروايات تبيّن المراد من الميزان وتذكر أنّه هو أمير المؤمنين عليه السلام, ليصير معنى الآية المباركة: أنّ الله رفع السّماء, والسّماء هي حقيقة الوجود المقدّس للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم, ووضع الميزان, يعني نصبَ أمير المؤمنين, فلا تطغوا في هذا الميزان, ولا تتجاوزوه ولا تتخلّفوا عنه, أوفوا حقّه, طابقوا أنفسكم وقوّموها على أساس هذا الميزان, اتّخذوه مقياساً لأفكاركم وعقولكم وآرائكم وعقائدكم.
وأمّا أنّه كيف كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الميزان؟ فالجواب هو أنّ رسول الله وخاتم النبيّين هو أفضل وأشرف من جميع الأنبياء والمرسلين, وقد انتقلت جميع كمالاته وعلومه ومعجزاته إلى أمير المؤمنين, وهو نوع من الإرث حسب المنطق القرآنيّ, فأمير المؤمنين متقوّم بميزان الحقّ, وجميع وجوده وبدنه وفكره وقواه الواهمة والمتخيّلة, وحسّه المشترك, والقوّة الحافظة, والعاقلة, وجميع ملكاته من صبره, وعبادته, شجاعته, تحمّله عند المصائب والشّدائد, من صلاته.. عبادته.. عفّته.. عبوديّته, فكلّ ذلك على أساس الحقّ, وإدراكه ومعرفته على أساس الحقّ أيضاً.
فهو أسمى كوكبٍ وأرفع نجمٍ في سماء الولاية, وجميع الأنبياء والمرسلين ينضوون تحتَ جوهره, وليس لأحدٍ من الأنبياء ـ عدا النبيّ الأكرم ص ـ مقامَه وعظمتَه, فهو مثالُ الإنسان الكامل من جميع الجهات, الذي يتلألأ في سماء الولاية, لذلك فإنّ عفّة أمير المؤمنين ميزان كذلك.
يعني أمير المؤمنين هو إمام للبشر وهم مأمومون له, وهو المقتدَى وهم المقتدون به, وهو المتبوع والكلّ تابع له, ويجب على الجميع أن يسيروا إليه ويتحرّكوا نحوه, ويقلّدوه ويتّبعوه خطوة بخطوة, ويقرّبوا أنفسهم إلى مقامه, وكلّ من يقترب منه أكثر فسوف ينهلُ منه بشكل أوفر, وسيتمتّع بالإنسانيّة بشكلٍ أكثر, وكلّ من يبتعد عنه فسوف يقع في الضياع ويزداد حرمانه.
أمير المؤمنين ميزان العفة و ميزان العفو و التسامح
فمن باب المثال تمثّل عفّة أمير المؤمنين ميزاناً, وعليها يقاس باقي الأعمال العفيفة, ذلك لأنّ ميزان الأعمال الذي تقاس به أعمال الإنسان يوم القيامة ليس له إلا كفّة واحدة, كفّة واحدة توضع فيها الأعمال ويكون الوزن للحسنات فحسب, لا أنّ هناك كفّتان تكون في أحدهما الحسنات وفي الأخرى السيّئات ثم يوازن بينهما ليُعرف ما إن كانت الحسنات سوف تغلب فيدخل الجنة أو السيّئات فجهنّم!! لا.. لا يوجد لدينا أيّة رواية ولا آية بهذا المعنى, فالأعمال السيّئة لا وزن لها أصلاً, ففي يوم القيامة تضيع الأعمال السيّئة وتتلاشى وتصبح هباءً منثوراً, دون أن يكون لها أيّ قيمة أو تأثير لتقوى على تقليل الحسنات أو تؤثر على وزنها, فالحسنة حسنة والسيئة لا وزن لها, وما يوجب الثقل في أعمال المسلمين هو الحسنات, {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}[3].
فحينئذ يقايسون حسناته مع حسنات الميزان, فيحضرون المؤمن, ويحضرون عفّته وعصمته.. عباداته.. سائر أخلاقه.. ملكاته وأعماله, ويقيسونها بهذا المقياس, فيقولون له: أيّها المؤمن! ليس نبيُّكَ حضرة شعيب ولا لوط وهود ولا صالح ويعقوب وإسحاق ويوسف.. هؤلاء ليسوا ميزاناً لك ولا مقياسك, وإنّما ميزانك أمير المؤمنين, فهو إمامك, وأنت تدّعي أنّك تتّبعه وتطيعه, وأنّك من شيعته, وقد نصبّه الله عليك ولياً بعنوانه إماماً, فنحن تحت رايته ولوائه سواء شئنا أم أبينا, وعلينا أن نقتدي به, وعلى الإنسان أن يقيس أعماله وممشاه طبقاّ لهذا المقياس.
فتقايس عفّته على عفّة أمير المؤمنين وتزان على أساسها, ليلاحظ إلى أيّ حدٍّ هي قريبة منها, وليرى ما إنْ كان تسامحه وعفوه قريباً من تجاوز وعفو أمير المؤمنين.
أيّ تجاوز كان لدى أمير المؤمنين وأيّ عفو؟!
إنّ حياة أمير المؤمنين بجميع مراحلها تمثّل التجاوز المحض والإحسان الخالص, فقد كان عينَ التضحية, ففي ليلة المبيت...
(في ليلة المبيت) كان قد نام مكان النّبيّ.. وفداه بنفسه.. ولا يستطيع أحدٌ أن يتخيّل صدور هكذا نوع من التضحية والفداء من نفسه, وكان في جميع حياة النّبيّ المسامح الأوّل والمضحيّ الأكبر.
وكذلك بعدَ رسول الله, حيثُ غضّ النّظر عن حقّه الشّخصيّ من الرياسة والحكومة, وقعدَ في بيته لمدّة خمس وعشرين سنة, كلّ ذلك حفظاً للإسلام, فجلس دون أيّ إقدام أو مبادرة.. ودون أيّ انتفاضة أو ثورة.. حيث كانوا قد عرضوا عليه الكثيرَ في تلك الأيّام الصّعبة التي واجهته وكانوا يقولون له: يا أمير المؤمنين مدّ يدَك لنبايعك, انهض و ثُرْ, كفى بك قعوداً وإعراضاً, قمْ وخذْ حقّك...
إلا أنّه لم يهتزّ أبداً, ولم يعبأ بكلّ ذلك, لأنّه كان من الواضح كالشّمس أنّ هذا القيام سيكون على حساب الإسلام, ولا بدّ من الصبر والتّجاوز حتى يبقى دين النبيّ, وسوف لن تكون هذه الثورة موفّقة ومثمرة, بل هي لصالح أولئك الأشرار المعاندين, الذين يتربّصون بأمير المؤمنين الدوائر, ويترصّدون هزيمته, بل وهزيمة النّبي والإسلام, فما كان من أمير المؤمنين إلا أن تجاوز عن حقّه عملاً بوصية رسول الله, وحفظاً للقرآن, وحفظاً للإسلام.
فكانت حياته في غاية الصعوبة وفي أعلى درجات المحنة, تماماً كحياة سلطان من السلاطين أو ملِك من الملوك, حينما يبعدونه ويعزلونه, ولا يبقون معه واحداً, من جنوده فأمير المؤمنين لمدّة خمس وعشرين سنة كان يعيش في مثل هذه الظروف, ثم بعد ذلك وصلَ إلى الخلافة الظاهريّة.. فأيّ عفوٍ هذا وأيّ حِلم! وأيّ تجاوز وتسامح! إنّه في الواقع يبهتُ عقلَ الإنسان على مدى كلّ التاريخ.
كذلك واقعة الجمل وعفوه عن عائشة, وهو ما حيّر جميع العلماء وأدهش العظماء, وكذلك تضحيته, وحلمه وصبره.
وكذلك مسألة ابن ملجم المراديّ, حيث لم يكن الأمر مزاحاً, فابن ملجم أحبطَ خطّة أمير المؤمنين, وبواسطة ضربته هذه قد أوقف جيش أمير المؤمنين الذي كان يتحرّك إلى قتال معاوية ويزحفُ إلى مواجهته, فمعاوية هو الذي أغراه بقتل أمير المؤمنين, ثم بعد بضعة أيّام توجّه إلى الكوفة, وصعد المنبر وصرّح بأنّي لم أقاتلكم حتى تقيموا الصلاة أو تصوموا, فهذا شأنكم, افعلوا ما تريدون! (أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكون وتحجّون. ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وعلى رقابكم, وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون)[4], هذا هو الإعلان الرسمي لمعاوية آنذاك, فهو يقولها بصراحة: لا يهمّني إسلامكم هذا, هدفي هو الإمرة عليكم!
وهو ما جعلَ أمير المؤمنين أسيراً مكبّلاً بسبب ضربة ابن ملجم, إلا أنّه مع ذلك حيث وقع ابن ملجم في قبضته, ألم يكن باستطاعته أن يفعل به ما يشاء ويقتصّ منه كيفما يشاء؟! ألم يكن بمقدور أمير المؤمنين أن يبقيه حيّاً ويأمرهم أن يقطعوا منه كلّ يومٍ إصبعا؟! أو أن يقطّعوه إرباً إربا؟! أو يلقوه في النّار؟! ماذا قال لهم أمير المؤمنين؟ الكلّ تعجّب من وصيّة أمير المؤمنين تلك, فما هي هذه النّفسية!! وأيّ روحيّة كان يمتلك! وأيّة إنسانيّة لديه! ما هي طبيعة هذا العفو؟! ومن أيّ أفق رفيع ينظر إلى الأمور!!
يقول أمير المؤمنين: بنيّ حسن! إنْ أنا متُّ من ضربتي هذه, فاضربه ضربة بضربة, (ليس من حقّك أن تضربه ضربتين), وإنْ تعفو فهو لك خير, وإن بقيت رأيت فيه رأياً وأنا أحقّ بالعفو.
هذا هو كلام أمير المؤمنين, فلنقسه على كتاب الله, ماذا يقول كتاب الله؟
يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [5]
هذا هو أمر القرآن, وهذه هي آيات القرآن, وأمير المؤمنين المتحقّق بحقيقة القرآن قد وقع مورداً للآية, حيث عوقِبَ وظُلم من الآخرين, وضُرب بالسّيف على رأسه, والحال أنّ تمام القدرة بقبضته, إلا أنّ وجوده لا ينفكّ عن حقيقة هذه الآية القرآنيّة أبداً, فهو الشّخص الذي يطلق عليه حارس القرآن, وهو الذي نسمّيه ولي القرآن, وهو الذي يقال له: وليّ القرآن, فهو حقيقة القرآن.
يدّعي الكثير من الأفراد أنّهم على علم بالقرآن وأنّهم يعملون به, إلا أنّهم حينما يواجهون ظروفاً مشابهةً لتلك الظروف, يظهرون بوناً شاسعاً مع تعاليم القرآن, ويبتعد عملهم عن تعاليم القرآن فراسخ متمادية وبعيدة! إلا أنّ أمير المؤمنين على خلاف ذلك.
وما أوصى به من عدم تجاوز أكثر من ضربة واحدة, لم يكن لأجل كسر النّفس, أو بغية التصنّع والتظاهر بذلك, أو لأجل التعليم والتّربية طلباً للاقتداء به.. لا, أبداً!! إنّما هو عين الواقعيّة, فأمير المؤمنين يدرك أنّ حقّ ابن ملجم هو أن تضربَ عنقه إلا أنّ العفو أفضل, ويدرك لو نجي من ضربته هذه فسوف يكون العفو أحسن, و لكان عفا واقعاً.
ألم يعفُ سيّد الشهداء عليه السلام عن الحرّ بن يزيد الرياحيّ! والحال أنّ جميع المصائب التي كان قد ابتلي بها سيّد الشهداء قد جاءت بسبب الحرّ, فلو لم يقف الحرّ بوجه الإمام الحسين لما كان قد توجّه إلى كربلاء.
هذه هي حقيقة الولاية التّي سوف تمثّل الميزان يوم القيامة, ففي ذلك اليوم يُحضرون أمير المؤمنين مع جميع عفوه وحلمه وتسامحه, ثمّ يزينونها بواسطة حقيقة تلك الآية القرآنية {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} ثمّ يقيسون عفوَ جميع أفراد الأمّة وتسامحهم على أساس هذا الميزان؛ هل عفوتَ أمْ لا؟ في تلك القضيّة تسامحتَ أم لا؟ وفي تلك المسألة حيث كان أحدهم قد فركَ أذنك وأهانك, فقمت أنت بضربه صفعتين على وجهه.. على أيّ أساس قمت بذلك؟ ألم تسمع القرآن حيث يقول: العين بالعين والسنّ بالسن[6], فإن يضغط على أذنك, اضغط على أذنه, لا تصفعه على وجهه!! وإنْ قاموا بشتمك أيضاً فليس من حقّك أنْ تلطمه بيدك! وإن قاموا بصفعك على وجهك فليس من حقّك أن تجلده.. وإنْ قطع يدك فلا يحقّ لك قتله.. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[7]
أي من حقّك أن توقع بهم ما قد أوقعوه بك, دون زيادة, وإنْ تعفو فهو أفضل وأحسن.
إذنْ, الميزان هو أمير المؤمنين, فهو ميزان التسامح, ميزان العدل, ميزان العفو.
أمير المؤمنين ميزان العدل و حفظ الحقوق
ذكرت لكم البارحة قصّة عقيل, فعقيل هو أخ أمير المؤمنين, وكان بينهما منتهى الصّداقة والإخلاص, وغاية الرأفة والألفة, فقد كان شخصاً عزيزاً على أمير المؤمنين, وهو أكبر منه بعشرين سنة, وكانت حياته في غاية الفقر. وذات يوم أتى إلى أمير المؤمنين وطلب منه عطاءً من بيت المال, حيث أن أطفاله كانوا شاحبي اللون من شدة الفقر, وكأنّهم قد صُبغوا بلون قاتم, فملامح الفقر والعوز والغربة قد خيّمت على عيال عقيل.
أتى إلى أمير المؤمنين وطلب منه مالاً, فلم يجبه, ثمّ كرّر الطّلب ثانية, وطلبَ, وطلب, حتى أخذ أمير المؤمنين قطعة من الحديد وأحماها على النّار, وكان عقيل ضريراً لا يرى, ثمّ ألصقها ببدنه, فعلا صراخ عقيل من شدّة الألم.
فقال له أمير المؤمنين: ثكلتك الثواكل يا عقيل! أي فلتمتْ, أتئنّ من أذى هذه الحديد التي أحميتها أنا, ثمّ تدعوني إلى نار غضب الله التّي أعدّها لمخالفيه المتمردين عليه, بيت المال لجميع المسلمين, هل يمكن أن أعطيك من حقّ الآخرين! مهلاً, تعالَ وخذ سهميَ أنا, فهذه حصّتي خذها لك..[8]
هذا هو ميزان العدل, يزين بدقّة فائقة, ولا يشتبه في قياسه أبداً.
فبيت مال المسلمين بيد أمير المؤمنين, والأموال تتدفّق عليه من الشّرق والغرب, إلا أنّه لا فرق في العطاء بين أخيه عقيل العزيز العابد والذي تربطه بينهما نهاية المحبّة والصّداقة, وبين شخص أسود حبشيّ قد أسلم حديثاً, ولم يعرف من الإسلام إلا إجراء الشهادتين على لسانه, لا فرق بينهما أبداً.
يقول: أنا لا أستطيع أن أُعطيك أكثر من حقّك, لأنّ الله أمرَ بتقسيم بيت المال بالسويّة بين جميع أفراد المسلمين, فلا يمكنني أن أعطيك, ولا تدعوني إلى نار جهنّم.. هذا هو الشّخص الذي يقال له ميزان العدل.
ذات يوم استعارتْ بنتُ أمير المؤمنين من بيت مال المسلمين قلادةً مرصّعة, حيث كان يومَ عيدٍ تتزيّنُ فيه فتيات قريش بأجمل ما لديهنّ من الحليّ وأفخر الزِّيَن, فلم يكن عند بنت خليفة المسلمين عليّ ابن أبي طالب قلادة! (ومن الواضح أنّ صاحبة هذه الحادثة ليست حضرة السيدة زينب ولا أم كلثوم, فهنّ أعلى وأرفع من هذه المسائل كلّها, بل هي بنت أخرى لأمير المؤمنين, حيث كان لأمير المؤمنين حين وفاته سبعة وثلاثون ولداً بين إناث وذكور) فاستعارت القلادة من حارس بيت المال, ثمّ ما إنْ وقعَ نظرُ أمير المؤمنين على هذه القلادة, حتّى سألها:
من أين لك هذه؟
أجابت: يا عليّ, ليس لديّ شيء أتزيّن به, وهذه أيّام العيد وجميع فتيات قريش متزيّنات بأجمل الزِّيَن, فما هو حالي معهن وكيف أقابلهن وأنا بنت خليفة المسلمين.
فقال لها: أرجعيه بسرعة! بسرعة.. بسرعة! فلو كنتِ تعلمين لأجريت عليك الحدّ.
وبعد ذلك اتّجه نحو خازن بيت المال وسأله:
كيف تعطيها القلادة؟
فأجاب الحارس: يا أمير المؤمنين, إنّي لم أملّكها إيّاها, وإنّما أعطيتها بعنوان عارية تتزيّن بها فتضعها على عنقها مرّتين, ثمّ تُرجعها إلى بيت المال.
فقال له أمير المؤمنين: هل لديك من هذه القلادة ما يعادل عدد جميع فتيات المسلمين لتعطيهنّ كلّهنّ؟!
قال: لا
فقال له: إذنْ لا خصوصية لابنتي أبداً.
ألم تسمعوا في معركة بدر ـ كما قد أسلفنا ذكره من قبل ـ حيث أُسر عمّ النّبي العبّاس, وأَتَوا به مكبّلاً بالحبال والأغلال, حيث بات رسول الله يسمع أنين عمّه العباس طوال تلك الليلة, ولم يستطع النّوم لحظة واحدة, حتى سألوه يا رسول الله: لماذا لا تنام؟
فأجابهم: أنينُ عمّي العبّاس سَلبَ منّي النوم, فممّا يئِنّ؟
فقد شدّوا الوثاق والحبال على يديه, فتوجّهوا إلى العبّاس وأرخوا له الحبال حتّى ارتاح واستطاع أنْ ينام.
فقال النّبي: قد خفَّ أنينُ عمّي العباس.
فقالوا: يا رسول الله, قد أرخينا له الأغلال التي في يده.
فسألهم: هل أرخيتم وثاقَ كلِّ الأسرى أم لا؟!
قالوا: لا
فقال: لا يجوز لكم فعل ذلك, فهؤلاء أسراكم, وإن تفكّوا الحبال لعمّي وترخوها له, فلا بدّ من فعل ذلك للجميع. فأرخوا الحبال للجميع, وهو حقيقة قوله تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [9]
نعم سيحضرون أمير المؤمنين حينئذٍ, ويعلنون أمام الملأ: أنْ هذا هو ميزان العدالة, وحدود العدالة وحدّها هو ما كان داخلاً في هذا الميزان.. وأنتم أيّها المسلمون, هل تراعون مقياس العدالة وتعملون على أساسه؟ هلْ تمتدُّ يدكَ إلى بيت مال المسلمين؟ هلْ تصرفها على مخارجك الشّخصية؟ وتدع المؤمنين والمسلمين.. والأيتام.. العراة الذين لا لباس لهم.. المساكين.. العجَّز.. الضعفاء.. الجِياع.. المرضى.. كلّ أولئك تدعهم يموتون؟ فيقيسون ذلك حينئذ على أساس ميزان أمير المؤمنين, وكلّما كان منه قريباً, يكون في الجنان القريبة من مقام أمير المؤمنين, وكلّ إنسان يكون أبعد, فهو أبعد, والبعيدون كثيراً هم أصحاب جهنّم, والقريب في الجنة, والقريب جداً هو المجاور لأمير المؤمنين, وعليه فإنّ فعّاليّة هذا الميزان دقيقة جداً, فهو بالغ الدقّة والحساسيّة, بل هو أدقّ ميزان على الإطلاق.
يقال: إنّ بعض الموازين حسّاسة إلى حدّ أنّها تتأثّر بوضع ورقة واحدة, فيتحرّك درجتين بوضع الورقة عليه, فكم هو دقيق هذا الميزان, إلا أنّ ذاك الميزان أشدّ دقة وأكثر حساسيّة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8} [10] فكلّ إنسان سوف يشاهد عمله سواء كان عمله خيراً أم شراً, حتى وإن كان بمقدار الذرّة التي لا ترى بالعين, كذرّة الغبار التي نشاهدها وسطَ أشعّة الشّمس.
فهذا الميزان يقيس كلّ شيء تراه, وذلك من خلال ميزان عدالة أمير المؤمنين, وخيرات أمير المؤمنين, فنفس هذه الشّخصية المباركة ميزان لأعمال الأمّة, وحجّة عليها, وسيُنصبُ لهم هذا الميزان ويُشرعُ بعرض أعمال النّاس عليه, كذلك يحضرون عبادة أمير المؤمنين ويأتون بمقامه, ويقيسون عليه ويزينون على أساسه, لمعرفة المرتبة التي بلغتها صلاتهم, ولمعرفة مستوى توجّههم إلى الله.
أمير المؤمنين ميزان الخشوع لله و ميزان الفداء في سبيله
كان أمير المؤمنين قد أصيب بسهم في قدمه, فذهبوا إلى حضرة الزهراء عليها السّلام وسألوها قائلين: لم نستطع إخراج السّهم من قدم أمير المؤمنين, أما هناك من حيلة؟
أجابتهم: أخرجوه حينما يكون ساجداً, لأنّه لا يشعر بالألم حينئذ.
فتمّ إخراج السّهم من قدم أمير المؤمنين وهو في حال سجوده, والحال أنّه لم يمكن ذلك في غير حال الصلاة, حيث كان سهماً ذا ثلاث شعب, فلا بدّ وأن يبضّعوه فيما لو أرادوا إخراجه, إلا أنّهم استطاعوا فعل ذلك حين السجود, فأيّ توجّه كان لديه أثناء صلاته!!
سيحضرون أعمال الأمّة ويقيسونها, ويقولون: نحن لا نتوقّع منك أن تكون كأمير المؤمنين, بحيث تقدر على قلع سهمٍ من قدمك, فهذا فوق طاقتك, كما وأنّه لا يتوقّع منك وجود تلك الجذبات الإلهيّة أثناء الصلاة, بحيث أنّك تسقط مغشيّاً عليك, وإنّ ما نطلبه منك هو الصلاة مع استحضار قلبك, فقل: الله أكبر.. السّلام عليكم.. ولكن بدون تفكيرٍ في التّجارة والزراعة, الحكومة.. الرياسة.. الشّراء.. البيع.. جمع المال واقتنائه.. أو الزوجة والابن.. هل هذا صعب؟! من المؤسف جداً, والمخجل كثيراً أن لا يستطيع الإنسان الالتزام بهذا المقدار من التوجّه.
لقدْ كان يَفدي النّبيَ بنفسه أثناء المعارك والحروب, ولم يكن يفكّر بنفسه أبداً حينما يحمى الوطيس وتشتدُّ المواجهة, بحيث كان جسده يمتلئ بالسّهام والجراحات, فقد أصيب بدنُ أمير المؤمنين عليه السّلام بتسعين جراحة في معركة أُحُدْ, وكان بعضها بليغاً إلى حدٍّ بلغَ العظمَ وسرى فيه, وكانوا قد ضمّدوا له تلك الضربات, ووضعوا عليها الفتيل بإحكام حتّى تلتئم و.. هكذا كان فداؤه للنبيّ الأكرم. فينصبون ذلك ميزاناً للحساب, ويحضرون في الجانب الآخر أولئك الأفراد الذين كانوا آنذاك, إلا أنّهم لم يحرّكوا ساكناً, ولم يُخرجوا سيوفهم من أغمادها أصلاً, أو أنّهم قاموا بالفرار إلى أعالي الجبال مراقبين, أرَبِحَ النّبي أم انهَزَمْ؟! قُتِلَ أم لم يُقتلْ؟! هلْ يكون هؤلاء في درجة واحدة مع الآخرين!!
كان يدّعي هؤلاء الخلافة وكانوا يقولون: يا عليّ نحنُ أجدرُ منك بالخلافة.. فهيّا بنا نستولي على حكومة المسلمين.. ونترأس ونتأمّر عليهم..
أمّا أمير المؤمنين, فحينما كان في المدينة بُعيدَ حربِ أُحُدْ, حيث كان ممدّداً على الفراش تحت المراقبة والرّعاية إثر تلك الجراحات, بَلغَ النّبيَّ أنّ الكفّار يستعدّون للإغارة ليلاً على المدينة, فأعلن النّبي الجهاد وأمر المسلمين بالدّفاع عن ثغور المدينة, فما كان من أمير المؤمنين إلا أن عاد وحمل سيفه..
ومثله ما حدثَ قبيل معركة بدر, حيث كانت العتْمة حالكة في تلك الليلة, والخوف والرّعب يلفّ الجميعَ من كلّ جانب, فأعطى النّبي القربة لسعد بن أبي وقّاص, وأمره أنْ يذهب ويملأها ماء, فذهبَ وبحثَ كثيراً, ورجعَ وقال: يا رسول الله! لم أجد ماء, ثمّ أعطى النبيّ القربة إلى غيره.. وغيره, ولكن دون فائدة, يرجعون ويقولون: لم نجد الماء!! إلى أنْ أعطاها إلى أمير المؤمنين ـ فلا مجال لـ "لم أجد" عند أمير المؤمنين, بل لا بد من الإتيان بالماء, فالنبيّ طلب منه! ـ فحمل القربة وراح يبحث في الصّحراء المظلمة الموحشة.. عتمة وبرد.. حيث كان الأعداءُ قد سيطروا على جميع أطراف بدر وأحاطوا بها وأحكموا محاصرتها, فذهبَ بمفرده وبلغَ قعرَ البئر وملئ القِربة, وما إنْ نَهضَ وأخرجَ القربة وأرادَ التوجّه نحو النّبي, حتّى هبّت من فوقه ريحٌ عاصف, فرقدَ أمير المؤمنين ينتظر هدوء العاصفة, وما إن هدأت حتّى عصفت ريحٌ أخرى, ثمّ ريحٌ ثالثة كذلك, إلى أنْ رجع إلى النّبي فسأله: يا علي! لمَ تأخرت؟
فأجابه: قد داهمني ريحٌ شديدٌ ثلاث مرات.
فقال له رسول الله: أمّا الرّيح الأولى فجبرائيل, والثانية إسرافيل, والثالثة ميكائيل, مع كلّ منهم ألفٌ من الملائكة, قد هبطوا من السّماء كي يحيّوك ويباركوا لك, ويهنّئوك, فقد تباهت الملائكة بك وتفاخرت بفعلك, وهؤلاء الملائكة البالغ عددهم ثلاثة آلاف, سوف يكونون لك عوناً ليكون النّصر غداً حليفك وعلى يديك.
لقد كان عدد جيش المسلمين في معركة بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلا مقابل تسعمائة وخمسين رجلاً في جيش الكفّار, كلّهم مجهّزون بالسيوف والعدّة والعتاد والفرسان والجمال.. أما المسلمون فلم يكن لديهم شيء من ذلك, وقد قتلَ أميرُ المؤمنين عليه السّلام ستةً وثلاثين من الأعداء, وأما بقية المسلمين فقد قتلوا أربعة وثلاثين شخصاً من الكفّار, وذلك بمعونة من الملائكة, يعني أمير المؤمنين بمفرده قتلَ أكثر من نصف ما قتله مجموع جيش المسلمين البالغ عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلا, هذا هو الميزان.
وكذلك في تلك الليلة التي بات فيها مكان رسول الله في فراشه, وهو ما قد وردنا ضمن الروايات, التّي ذكرها الشيعة والسنّة, بل وكبار أهل التسنُّن, حيث ذكروا أنّ جبرائيل أقام تلك الليلة فوق رأس أمير المؤمنين, وميكائيل تحت قدمَيه, حيث كانا يتعجّبان و يتعلمان ممّا قام به أمير المؤمنين ويقولان: بخ بخٍ لك يا عليّ! أنظار جميع ملائكة السّماء متوجهة إليك الآن, لأنّ الله يباهي بك ملائكته ويفتخر بك على جبرائيل وميكائيل.
لقد أرادَ الله أنْ يمتحنَ جبرائيل وميكائيل, قال: أريدُ أن أجعلَ حياة أحدكما أطول من الآخر, فأيّكما يختار أن يكون عمره أقصر من رفيقه, وعمر رفيقه أطول من عمره؟ فلم يقل جبرائيل: ليكن عمري أقصر وعمر ميكائيل أطول, ولم يقل ميكائيل ليكن عمري أقصر وعمر جبرائيل أطول, بعد ذلك, قال الله لهما: اهبطا! فنزلوا؛ فقيل لهم: فلتجلسا فوق رأس هذا الرجل وتحت رجليه؛ شابّ عمره لا يتجاوز الـ الثالثة والعشرين من العمر, هذا الشّاب قد نام مكان النبيّ, وجعل تمام جسده في معرض السهام والرماح والسيوف والحراب, فهو مستعدّ لأن ينقضّ عليه أربعون شخصاً من شجعان ذلك الزمان وفحوله, ويقطّعوه قطعة قطعة, هذه المواساة التي صدرت من عليّ للنبيّ, لم تستطيعا أنتما أيّها الملكين المقرّبين منّي أن تقوما بها, إذن عليٌّ أفضل من الأنبياء, وعليٌّ مقرّب و مقدّم على الملائكة.
كذلك حالة الرحمة والعطوفة التي كانت لدى أمير المؤمنين, فقد نُقل حول ذلك الكثير من الحكايات والمواقف العجيبة, يذكر منها ابن أبي الحديد في كتاب "شرح نهج البلاغة", حيث ينقلها عن الشّافعيّ والزمخشريّ فيقول: إنّ من المدهش جداً وغير المعقول أبداً أن يكون لشخص هاتان الحالتان في آن واحد, فأمير المؤمنين مع ما كان عليه من الشّجاعة والإقدام, حيث لم يبخل بنفسه ولم يتقاعس لحظة واحدة في سبيل نشر الدين وإرساء قواعده, وقمع الطغاة وقلع شوكتهم, فهو مُصارِع الأبطال وهازمهم.. وفارس الميدان.. و مع ذلك نراه تنهال الدّموع من عينيه!!
فإنّه من يكن رقيقَ القلب عطوفاً رحيماً.. فلا معنى للشّجاعة عنده, بل كيف يتسنّى له ذلك؟! فصفات عليّ المتضادّة تدلّ على أنّه مظهرٌ للصفات الإلهيّة الجلاليّة والجماليّة في آن واحد.
فعليٌّ فانٍ في الله, وصفات الجمال والجلال تظهر من خلاله, وحينما يتطلّب الموقف ضرب السّيوف, فلا خوف لديه ولا جزع, وحينما يجب عليه أنْ يتوقّف.. ويعطف.. فإنّه يتواضع, ويتواضع, ويتواضع إلى حدّ يجلسُ ذاك الطّفل اليتيم ويضعه في حضنه, يقبّله.. يمسح على رأسه.. يلاطفه.. ويرافقه حتّى يوصله إلى منزله, وبعد ذلك يذهب إلى عمله, والحال أنّه خليفة المسلمين!!
وقد ربّى أصحاباً على نفس هذا الممشى والسّلوك, فكانوا أوفياء كأمير المؤمنين, مثل قيس بن سعد بن عبادة, مثل محمّد بن أبي بكر, مثل مالك الأشتر, مثل سعد, فكانوا يمتلكون صفات عالية, وكانوا أشخاصاً ملكوتيّين, وهذا هو مقام ميزان الأعمال.
لأجل ذلك {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وحينئذ, فإنّ الميزان الذي يقيس به الله جميع أعمال الأمّة هو مقياس أمير المؤمنين.
هنيئاً لأولئك الأفراد الذين يكون أعمالهم في الدنيا قريباً من ميزان أمير المؤمنين, فهم كذلك يوم القيامة, قريبون منه, يعبرون الحشر والنشر والقيامة والصراط والحساب والعرض.. كلّ ذلك كلمح البصر {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}[11]
ظهور فضائل أمير المؤمنين رغم سعي أعدائه لمنع ذلك
وحالات أمير المؤمنين هذه, كانت تشتدّ ظهوراً وتزداد بروزاً في هذه الدنيا يوماً بعد يوم, حتّى أنّ الذين لا يمتّون إلى الدّين بصلة يَرونَ أنّه وحيد دهره وفريد عصره ومثالا للشّرف والإنسانية, ويكنّون له كمال الاحترام والتقدير, إلا أنّ المسلمين ليسوا كذلك.
يقول جبران خليل جبران:
"كان عليّ إنساناً سابقاً لزمانه ومتقدماً عليه (علماً أنّ جبران هذا مسيحيّ), وأنا أتعجّبُ من هذا الزمان الذي يفيض على البشريّة بأشخاص هم سابقون لزمانهم", هكذا كان منهج أمير المؤمنين.
وكم سعى المخالفون جاهدين لإخفاء عظمة أمير المؤمنين وطمس حقيقته, بل ومحو اسمه وإماتة ذكره ودفن آثاره, ولم يَدَعُوا شيئاً من القتل والشنق والحبس والتضييق والإعدام إلا ومارسوه دون تردّد وتريّث, وإلى أيّ حد؟ إلى حدّ أنّهم أبعدوا اسم أمير المؤمنين طوال سنين متمادية, حتّى لم يعدْ يعرفُ النّاس معنىً للعدالة, وما ذلك إلا لأنّهم كانوا يريدون أنْ يلوّثوا أياديهم بدماء النّاس, وينالوا من أعراضهم ويدنّسوها, ويشيّدوا سلطانهم على أساس الظّلم والجور, وهذه المدرسة هي السائدة الحاكمة آنذاك, لذلك سعوا إلى إخماد اسم عليّ من الدنيا.
يقول "ابن شهر آشوب": ثلاثة أمور يمكن أن نعتبرها من معجزات أمير المؤمنين بعد حياته؛ تضاف إلى معجزاته زمن حياته:
أحدها: ذكر أعدائه لمناقبه وفضائله, فهم يذكرونها ويفصحون عنها جميعهم, فمع أنّهم لا ينتمون إلى نهج أمير المؤمنين, إلا أنّهم ذكروا وروَوا الكمّ الهائل من فضائل أمير المؤمنين, بحيث يروُونها في مجالسهم ويذكرونها في محافلهم, وإن اعترض أحدٌ منهم عليها ولم يعترف بها, فيجابهه الآخرون: إنّ ذلك لا يقبل الإنكار لأنّها وصلتنا من مصادرنا الصحيحة والمعتبرة, فهي مدوّنة في ذاك الكتاب ومرويّة عن فلان وفلان, وموجودة هنا وهناك..
ثانيها: قد دوّنَ أعداء الإمام الكتب الكثيرة في ذكر فضائله, فهذا ابن جرير الطّبري صاحب كتاب "الملوك والأمم" المعروف بـ "تاريخ الطّبري", فهو سنّي المذهب وقد كتب عن فضائل أمير المؤمنين, كما وقد أُلِّف كتاباً باسم "الغدير" يدور حول واقعة الغدير.
وكذلك أحمد بن حنبل, حيث ألّف كتاباً عن فضائل أمير المؤمنين, وسمّاه فضائل أحمد بن حنبل.
ومثله النّسائيّ وهو واحد من أئمّة أهل السنّة, قد دوّن كتاباً في فضائل أمير المؤمنين, وقد تتبّعته بنفسي فعلاً.
وعلى العموم أنّه قد دُوّن مائة وثلاثة وثمانون مصنّفاً في مناقب أمير المؤمنين, قام بتأليفها علماء السنّة الكبار والمشهورون وكتبوها بأنفسهم.. أليس ذلك معجزة؟!
ثالثها: أنّه في الظّرف الذي عمدَ أعداء أمير المؤمنين إلى طمس اسمه ومحو ذكره عن الألسن وتغييبه وتضييع رواياته وحذفها.. وبذلوا في ذلك كلّ ما لديهم من قوةّ وقدرة, إلا أنّ نوره بقي ساطعاً في كلّ أرجاء العالم. فقد جاء معاوية إلى المدينة ونظر إلى ابن عبّاس وقال:
يا ابن عبّاس! اعلمْ أنّي قدْ أصدرتُ الأوامر إلى جميع البلاد والأقطار, وكتبتُ إليهم: أنْ لا حقّ لأيّ شخصٍ أنْ يذكرَ فضيلة من فضائل أمير المؤمنين أبي تراب, وأنت مشمول لهذا الحظر ولا حقّ لك بذلك.
فأجابه ابن عبّاس: أتمنعنا من قراءة القرآن؟
قال: لا! اقرؤوا القرآن.
فقال ابن عبّاس: أتنهانا عن تفسير القرآن؟ هل نقرأ القرآن دون الشرح والتأويل؟!
فقال: نعم, دون التّفسير والتأويل يعني دون ذكر أمير المؤمنين.
ثمّ قال ابن عبّاس: هل نقرأ القرآن دون أن نفهمه؟!
أجابه معاوية: اقرؤوا وافهموا.. ولكن دون الرجوع إلى أهل البيت, وإنّما من الروايات التي نقلها الآخرون!!
قال ابن عباس: إنّما نزل القرآن على أهل البيت, هل من الممكن أن لا نسألهم ونرجع إليهم؟ هل نذهبُ إلى اليهود والنّصارى لنستوضح معنى القرآن!!
فقال معاوية: الزم ما قلته لك, ثمّ نهض وقال: سوف أعلنُ في شوارع المدينة وأسواقها أنّ من يذكر فضيلة من فضائل أمير المؤمنين فإنّ معاوية قد أهدر دمه, و سيقتل في الحال.
وكذلك يقول "عبد الله بن شدّاد الليثي": احترق قلبي وضاق صدري.. لم يسمحوا لي بذِكر فضيلة من فضائل أمير المؤمنين أبداً, وكنت آملُ أنْ يمهلوني فرصة حتّى أجلس من الصّباح إلى المساء لأنقل فضائل أمير المؤمنين, وإن شاؤوا بعدها فليقتلوني, فليس ذلك بعزيز, وأنا مع ذلك راضٍ, ولكنّهم لا يمهلوني للقيام بذلك, فإنّهم سيقتلونني فور شروعي بذكر الفضيلة الأولى..
لقد استمرّ ذلك لسنين متمادية, حتّى عمدَ الفقهاء والمحدّثون وسائر الأشخاص الذين أرادوا أن يذكروا مناقب أمير المؤمنين وفضائله في كتبهم من التفسير والحديث والفقه والتاريخ والأدب, إلى استبدال اسم عليٍّ, فشرعوا يقولون: رجلٌ من قريش! أو يقولون: قال ذلك شخصٌ من قريش.
وكذلك عبد الرحمن بن أبي ليلى, فهو ممّن يروي فضائل أمير المؤمنين, يقول: عن رجل.. عن رجل من أصحاب رسول الله.
ومثله "الحسن البصري" حيث كان يروي الرواية فيقول: عن أبي زينب.. ذلك لأنّ أمير المؤمنين غير معروف بلقب أبي زينب, بل كان مشهورا بأبي الحسن, فكان يروي عنه بعنوان أبي زينب.
ويقول "الشعبيّ": كنت أستمع تحت منابر بني أميّة في أيّام الجمعة, والأعياد, حيث كانوا يخطبون ويلعنون أمير المؤمنين.. ويسبّون.. ويسيئون.. ويحطّون من مقامه ويستخفّون به... إلا أنّي رأيت أنّه مع كلّ نيلهم منه, فإنّ اسمه يعلو ويرتفع كالمنارة في السّماء, وأنّه مع كل السوء الذي نسبوه إلى حضرته, مازال يتلألأ ويضيء ويتوهّج, وقد عمدوا في الطرف المقابل إلى نسبة الفضائل لبني أميّة, وإعلاء منزلتهم, وتمجيدهم.. فكانوا يعلنون ذلك على المنابر ويذيعونه أمام الملأ العام, كمن يستعرض القاذورات, ويشّق بطون الجيَف وينشرها أمام الآخرين, إلى حدّ أنّهم كلما أكثروا وبالغوا في ذلك كانت, رائحة التعفّن تفوح بشكل أفظع وتملأ الفضاء بأكمله!
يقول "ابن نباتة" أرادوا أن يطفئوا نور أمير المؤمنين, لكنّهم عجزوا عن ذلك ولم يقدروا, بل أضافوا بفعلهم هذا صيحة أخرى وصرخة جديدة كنفخة الصّور في يوم القيامة, فصرخة أمير المؤمنين في هذه الدنيا قد أُوثقت وأُبرمت بشكل محكم, تماماً كصيحة يوم القيامة, فعدل أمير المؤمنين.. وإنصافه.. ورحمته... قد استوعب جميع أقطار الأرض, فها أنت ترى قبور أولاده تملأ البسيطة, و تجدهم في جميع أرجاء العالم, والنّاس تأتي لزيارة قبور أولاده بعنوان التقرّب إليه وزيارته هو.
كذلك ينقلُ البخاريّ ومسلم وابن بصره وابن نعيم هذه الرواية: أنّه حينما اشتدّ حال النّبي وأرادوا أن يُحضروه إلى المسجد, أركبوه على البغلة, تقول عائشة: قد أخذَ زمام البغلة يجرها ابن عبّاس ورجلٌ آخر, ولم تذكر اسم ذاك الشّخص الآخر, فهو إما حسدٌ منها, وإما أنّ الرواة لم يستطيعوا ذكر ذلك فيما بعد, واضطروا إلى حذف اسمه. والنّتيجة أنّهم لم يذكروا هذه الفضيلة لأمير المؤمنين, وإنما قالوا "رجل آخر", وهو نوع من إطفاء نور عليّ, إلا أنّ نوره بهر الدنيا واستوعبها بأكملها, فهل بإمكانهم أن يطفئوه؟! {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[12] كلاّ, لا يستطيعون أبداً, وإنّما هم الذين سينحطّون وينزلقون.
مه فشاند نور وسك عـو عـو كند هر كسي بر طينت خود مي تند
(القمر ينشر النّور والكلب يعوي فكلّ شخص يظهر حسب شاكلته)
حسناً, هذا هو منهج أمير المؤمنين, فعلينا أن نلتفت نحن المسلمون إلى ذلك, نحن الشّيعة, علينا أن نكون حذرين متنبهين, وندرك أنّه لا يمكن المجاملة أو التساهل مع عليّ! فـ "عقيل" كان قد أدرك هذه الحقيقة, وعلم أنّه لا مفرّ من صراط العدالة, وكذلك أخذه للقلادة من ابنته وإعادتها إلى بيت المال, هذا المال الذي كانت قد أخذته ابنته بعنوان العارية لا التملّك!
فنحن الذين نقول: عليّ!! ينبغي أن يكون ميزاننا ومقياسنا قريبا من ذاك الميزان, ونطبق إبرة الميزان على ذاك السّهم, وإن تمكّنتم من تطبيق إبرة ميزانكم على تلك الإبرة, فهنيئاً! هنيئاً لكم! لأنّنا نكون قد فنينا في ذات الله, واعترفنا بمقام الولاية, وإن لم نستطع.. فكلّما كان قريباً كان أفضل وأعلى.
تشييع و دفن الأمير طبقا لوصيته
لقد أوصى أمير المؤمنين قبل ارتحاله عن هذه الدنيا بليلتين، حيث كان مستلقياً على الأرض, ولم يكن تحته فراش أو وسادة, وإنّما كان تحت قدميه ما يشبه اللحاف الرقيق, نعم كانوا قد وضعوا بعض الوسادات خلف رأس أمير المؤمنين, حيث كان يتّكئ عليها, إذ لم ينم على الفراش. حينها أوصى ابنه الحسن:
ألا وإني منصرف عنكم, وراحل في ليلتي هذه, ولاحق بحبيبي محمّد صلّى الله عليه وآله كما وعدني, فإذا أنا متُّ يا أبا محمد, فغسّلني وكفنّي وحنّطني ببقيّة حنوط جدّك رسول الله صلّى الله عليه وآله, فإنّه من كافور الجنّة جاء به جبرئيل عليه السلام إليه, ثم ضعني على سريري, ولا يتقدّم أحدٌ منكم مقدّم السرير, واحملوا مؤخّره واتبعوا مقدّمه, فأيّ موضع وُضع المقدّم فضعوا المؤخّر, فحيث قام سريري فهو موضع قبري, فإذا أنت صلّيت عليَّ يا حسن, فنحّ السرير عن موضعه, ثم اكشف التراب عنه فترى قبراً محفوراً ولحداً مثقوباً وساجةً منقوبة, فأضجعني فيها, فإذا أردتً الخروجَ من قبري فافتقدني فإنّك لا تجدني, وإنّي لاحقٌ بجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله, واعلم يا بُني ما من نبيّ يموتُ وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلا و يجمع الله عزو جلّ بين روحيها وجسديهما, ثم يفترقان فيرجع كلّ واحدٍ منهما إلى موضع قبره وإلى موضعه الذي حطّ فيه, ثم اشرِج اللحد باللِبن وأهِل التراب عليّ ثم غيِّب قبري.
ثمّ أوصاهم أن يرجعوا إلى الكوفة ليلاً, ويحافظوا على خفاء قبره, ويرسلوا نعشاً خالياً تحمله ناقة إلى المدينة بحيث لا يلتفت أحدٌ إلى موضع قبره.
هل رأيتم! هذا هو الميزان {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [13] انظروا إلى أيّ حدّ تصل الأمور مع هذه الأمّة الطّاغية المرائية, إلى حدّ يقول معه: أخفوا قبري, لأنّ الخوارج والنواصب, وأعوان معاوية, يأتون ويحفرون القبر ويخرجون الجسد, حيث كان قد وقع الكثير من هذه الحوادث آنذاك, لذلك قال أمير المؤمنين: أخفوا قبري.
يروي محمّد ابن الحنفيّة:
إنّه بعد وفاة أبي وارتحاله عن دار الدنيا, قد ارتفع الضجيج والنواح من بيتنا, ثمّ أسرع الإمام الحسن لتغسيله, فكان أخي الحسين يصبّ الماء والإمام الحسن يغسل, وكان البدن ينقلب يمينا ويساراً من تلقاء نفسه, دون أن يقلّبه أحد, وبعد ذلك نادى الإمام الحسن أخته زينب, أنْ أعطني بقيّة الحنوط الذي كان قد أتى به جبرائيل من الجنّة والذي كان قد تحنّط به النّبي والزهراء, فأتت به السيدة زينب, فحنّط الإمامُ الحسن أميرَ المؤمنين بحنوط الجنّة ووضع له من كافور الجنّة.
يقال: إنّه حينما فتح ذاك الحنوط, فاحت رائحته في جميع أرجاء الكوفة, ثمّ بعد ذلك كفّنوه بالكفن, يقول محمّد بن الحنفيّة: كانت تفوح من بدن والدي رائحة مسك وعنبر لم نكن قد شممناها من قبل.
ثم أخذوه في وسط الليل الدامس, فوضعوا بدنه على ذاك السّرير الخشبيّ, وحمل الحسن والحسين السرير من خلفه, فارتفع السّرير من الأمام, وذهبوا به خارج المدينة.
والذين شيّعوا الجنازة هم الإمام الحسن, والإمام الحسين, ومحمّد بن الحنفية, وأولاد أمير المؤمنين الذكور, وصعصعة بن صوحان, وبعضٌ آخرون من خواصّ الأصحاب, حيث إنّ الإمام الحسن كان قد منع الأشخاص الآخرين من المشاركة في التشييع والدفن.
فخرجوا في وسط الليل من الكوفة إلى النّجف, حيث لم تكن النّجف مدينة بعد, وإنّما كانت صحراء خالية, دون ماء ولا عشب, فمشوا بالجنازة على هذه الوتيرة رويداً رويداً.
يقول محمّد بن الحنفيّة: أقسم بالله, إنّنا كنّا كلّما نمرّ بالجنازة قرب مكان أو منطقة أو حائط أو حجر أو جبل أو فلاة أو مرتفع.. إلا وكان يسلّم على أمير المؤمنين, مع أنّ الليل كان دامساً لا يرانا أحد, حتّى وصلنا إلى أرض "الغريّ", إلى قائم غريّ (وهو منخفض حيث أنّ هناك دعامة قد جعلوها قرب الكوفة كعلامة للغريّ، يقال: حينما مرّوا بجنازة أحد الملوك من هناك, كان قد اعوجّ الصّاري الطويل تعظيماً وإجلالاً, وسلّم على أمير المؤمنين, وبقي معوجّاً ولم يعد, وكذلك عرش "أبرهه" جاء إليه عبد المطّلب, فإنّ السّرير كان قد سلّم وانحنى وبقي على هذا الحال.
إلى أن وصلوا بالجنازة إلى قطعة من الصّخر, فأجلسوه عليها, فكبر الإمام الحسن على جنازة أبيه سبع تكبيرات, وقال: لا تجوز السّبع تكبيرات لأحد غير أبي إلا المهديّ من آل محمّد, حيث سيكبّر على جنازته سبع تكبيرات أيضاً.
ثمّ أزاحوه بعد الصلاة, وحفروا ذاك المكان, فرأوا أنّ الأمر كان كما أخبرهم والدهم تماماً, فوجدوا قبراً جاهزاً, ولحداً مسهّداً, ووجدوا لوحة من الخشب وضعت على القبر, قد كتب عليها باللغة السريانيّة:
هذا القبر الذي ادّخره نوح قبل سبعمائة سنة من الطوفان لوصيّ نبيّ آخر الزمان.
ثمّ وضعوا جنازة أبي جانب القبر, وابتعد جميع الأفراد عن القبر إلا ثلاثة, أخي الحسن وأخي الحسين وأنا.
ثمّ أدخلوا جنازة أمير المؤمنين داخل القبر, ووضعوا عليه من تلك اللّبن التي كان قد أعدّها له نوح عليه السلام, ثمّ عاد الإمام الحسن وفتح واحدة منها فلم يرى الجسد, ثمّ انتظر قليلاً, ثم عاد وفتحها فرأى أنّ الجسد رجع مكانه.
وعن ذلك يروي الشيخ "حافظ البرسيّ" صاحب كتاب "مشارق أنوار اليقين" فيقول: قال أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسن: حينما تضع الجنازة في اللحد داخل القبر, لا تهل التراب عليها, وإنّما صلّ ركعتين ناحية القبر جانباً, يقول: ذهبنا وصلينا ركعتين ورجعنا إلى القبر, فرأينا أنّ قماشة من السّندس الأخضر قد مُدّت فوق بدن أمير المؤمنين, فقام الإمام الحسن ونظر إلى أعلاها, فرأى النّبي وآدم وحضرة إبراهيم, قد جلسوا يتكلّمون مع أمير المؤمنين, ثمّ رفع الإمام الحسين السّندس من الأسفل, فوجد في الأسفل أمّه فاطمة الزهراء وآسية ومريم وحوّاء, قائمين يعزّين في أمير المؤمنين, فألقوا السّندس وأهالوا التّراب على بدن أمير المؤمنين, وملأوا القبر بالتّراب. فأخذ صعصعة بن صوحان حفنة من التّراب ونثرها على رأسه, وصاح: السّلام عليك يا أمير المؤمنين! هنيئاً لك على ما أكرمك الله به, ولقد كان صبرك عظيماً, وكان جهادك عظيماً, وقد ابتليت بشتّى البلايا والمصائب, وكنت الرابح في تجارتك حتّى لحقت بحبيبك.
[1] ـ سورة الحديد, مقطع من الآية 25.
[2] ـ سورة الرحمن, من الآية 7 إلى 9.
[3] ـ سورة الأعراف, صدر الآية 8.
[4] ـ الغدير للشيخ الأميني 10: 326 و 11: 7 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 15 والنصائح الكافية لمحمّد بن عقيل صفحة 194.
[5] سورة النّحل, الآية 126.
[6] ـ مقتبس من الآية الكريمة {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة:45)
[7] ـ سورة البقرة, الآية 179.
[8] ـ ورد في نهج البلاغة بهذا الشكل>ثكلتك الثواكل يا عقيل, أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه, وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه, أتئنّ من أذى ولا أئنّ من لظى< نهج البلاعة شرح محمد عبده, 2: 217 و الأمالي للشيخ الصدوق صفحة 721 و شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي 3:241 و مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 1المجلد الأول صفحة 377 و حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني 2: 201 و205.
[9] ـ سورة الحديد, قسم من الآية 25.
[10] ـ سورة الزلزلة, الآيتين 7و8.
[11] ـ سورة القمر، الآية 55
[12] ـ سورة الصف, الآية 8.
[13] ـ سورة الرحمن الآية 7.
المصدر: www.motaghin.com
إضافة تعليق جديد